مقابلة مع عمر شبانة

مقابلة مع عمر شبانة

 

يكتب الموريتاني موسى ولد ابنو رواية مختلفة عن المألوف والسائد. أعماله تمزج التراثي بالخيال العلمي، وتبدأ من مصادر حديثة في السرد. يكتب بالفرنسية والعربية، وينتقل في قصصه بين شرق وغرب. هنا حوار معه:

طوال الفترة التي قضاها موسى ولد ابنو في الغرب، بين باريس ونيويورك، وهي تمتد من 1977 إلى 1986 وفي السنتين الأخيرتين منها عمل مستشاراً إعلامياً للأمم المتحدة، طوال هذه الفترة لم يكتب سوى بعض البحوث الفلسفية. ولكن عندما عاد إلى موريتانيا، وصار رئيس قسم الفلسفة في الجامعة، بدأ يفكر في كتابة موقفه من إشكاليات العصر، وأساساً تحديات مجتمع التكنولوجيا وعلاقة التراث العربي الإسلامي بمجتمع التكنولوجيا والغزو الحضاري الغربي، ومكانة أي مجتمع عربي إسلامي في العالم، وبعض الإشكاليات الأخرى التي تهم المشتغلين بالفلسفة. وعندما فكر بالكتابة، لم يجد إلا الرواية وسيلة للتعبير عن هذه المواقف كلها، لأنه كما يرى، "نعيش اليوم أزمة ميتافيزيقيا، لم يعد أحد يكتب كتباً فلسفية محضة، لأنه لا يوجد قراء للفلسفة". ولهذا توصل إلى كتابة الرواية، فكتب نصين بالفرنسية، الأول صدر في باريس عام 1990 وهو "الحب المستحيل"، العنوان الذي صدر به بالعربية، عن دار الآداب فيما بعد؛ والثاني بعنوان Barzakh صدر في باريس أيضاً عام 1993، لكنه عاد وكتبه بالعربية ليصدر1996 عن دار الآداب، قبل "الحب المستحيل"، في عنوان "مدينة الرياح"، وقد نشر ضمن مشروع "كتاب في جريدة" بهذا العنوان أيضاً.

في دمشق، في أحد مقاهيها تحديداً، التقيت به حين عرفني إليه الموريتاني الصعلوك "المتشوم" محمد البخاري، دليل المثقفين والصعاليك في دمشق، وتناولنا الكثير من المحاور بالنقاش، هنا أبرزها:

لماذا كتبت بالفرنسية أولاً، ثم عمدت إلى "إعادة كتابة بالعربية" بدلاً من ترجمتها؟

- كتبت بالفرنسية لأنني في تكويني درست باللغة الفرنسية، وكانت الكتابة بالفرنسية أسهل، خصوصاً في الرواية الثانية، "مدينة الرياح". وثانياً فرواية "الحب المستحيل" كتبتها في نقد مجتمع التقانة كما يسود الآن في أميركا وأوروبا. وربما لو قرأت الرواية من دون أن ترى اسم الكاتب، لا يمكن أن تتصور أن الكاتب موريتاني، فالروح كانت عولمية، ولكن من موقف نقدي. وأنا أسميها "أنثروبولوجيا مضادة". فهناك باحثون أنثروبولوجيون غربيون يكتبون عن مجتمعات "عالمثالثية" من موقعهم الحضاري "المتفوق"، وروايتي هذه أنثروبولوجيا معاكسة، لأنني كتبتها من وجهة نظر المجتمع العربي. وعندما تقرأ "الحب المستحيل"، يمكن أن تحس بهذا الشعور، فأنا أنظر إلى هذا المجتمع بعاداته وتقاليده من وجهة نظر مجتمع آخر.

أما سبب "إعادة كتابتهما"، بدلاً من ترجمتهما، فبعد أن كتبت هاتين الروايتين، لاحظت أن كثيرين اعتبروهما، وبخاصة "البرزخ"، في باب الرواية التراثية، أكثر منها عصرية، ولما حاولت الكتابة كان هناك الكثير من المصطلحات الموسيقية والقرآنية لم أتمكن من تمريرها خلال النص الفرنسي، لذلك قررت إعادة الكتابة إلى أصلها، وإعادة النص إلى اللغة العربية التي هي الأصل.

الرواية وخطيئة البشر

لو تحدثنا بشيء من التفصيل عن رواية "الحب المستحيل"، التي تمزج الخيال العلمي بالواقع الاجتماعي والقراءة التاريخية والفلسفية. ماذا تقول لنا رسالتها؟

"الحب المستحيل" رواية من روايات الخيال العلمي، تبدأ بنهاية فترة بعيدة في المستقبل، ليست محددة تاريخياً، لكن يمكن أن أقول إنها بعد القرن الحادي والعشرين. والشخصيات الأساسية فيها هي "آدم"، وهو يجسد الإنسان الكلي، و"مانكي"، وقد نحتّ اسمها من اليونانية، وهو يعني "ما سيصير"، ويعني "المستقبل"، فهي تومئ إلى مستقبل الرجل، لأن البطل يتحول في نهاية الرواية إلى امرأة من أجل أن يعيش حبه لها. وفي هذا التحول نظرة إلى الاتحاد، وهي أيضاً نظرة إلى التصالح الاجتماعي، لأن المجتمع الذي تدور فيه أحداث الرواية ينتج بعض الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها المجتمعات القديمة...

مقدمة الرواية تشرح الظروف التي أدت إلى الفصل بين المجتمعين والجنسين، وهذه الظروف تتلخص في أنه مع التحكم بالإنجاب البشري عن طريق "الإنجاب الأنبوبي"، لوحظ أن كثيراً من الأسر تنجب الذكور بدلاً من الإناث، حتى أصبح الجنس الأنثوي مهدداً. وهذا يعيدنا إلى العادة العربية القديمة المتمثلة في وأد البنات وتفضيل الذكور على الإناث. ونتيجة لذلك، حدث في هذا المجتمع قلب لتوازن الجنسين، وبدأت الصراعات. وفي النهاية تم التصالح على الإنجاب، على أن يسند إنجاب البنات للنساء، وإنجاب البنين للرجال. هذا هو المجتمع الذي تدور فيه رواية "الحب المستحيل". وبطبيعة الحال، ففي هذين المجتمعين يحظر تماماً الحب القديم كما كان يحدث بين النساء والرجال، لأنه أصبح خطراً على التوازن الاجتماعي الجديد. ومن أجل تماسك المجتمعين، استحدثت مؤسسة "الخدمة المختلطة"، التي تجمع بين الرجال والنساء سنتين عند فترة بلوغ المرأة والرجل. وخلال هذه الخدمة التي تقوم على نظام محدد، تحظر العلاقة العاطفية بالجنس الآخر، والتواصل في هذه الخدمة يجسد حظر العواطف والتعلق بالجنس الآخر. لكن آدم يقع في حب مانكي، وتقع في حبه ويتم معاقبتهما وسجنهما من أجل إعادة تأهيلهما الجنسي حتى يعود كل منهما إلى مجتمعه. فلم يبق أمام آدم غير حل واحد وهو أن يتحول إلى امرأة حتى يتمكن من العيش في مجتمع النساء مع حبيبته. الرواية نقد لتوظيف العلم في المجتمعات البشرية المعاصرة، عبر علاقته السلبية بتلويث الطبيعة والبيئة، وتوظيف العلم في علاقته بالسيطرة على الجسد البشري وتوجيهه إلى أغراض قد تكون مشبوهة، توظيف العلم في نفي العلاقات البشرية القديمة التي كانت قائمة في المجتمعات.

يبدو أنك تعتبر الإنسان خاطئاً منذ البدء؟ بأية فلسفة تبرر ذلك؟

هو خاطئ مرتين، في البداية وفي النهاية أيضاً، وقد تكون هذه النظرة تشاؤمية، لكن ما أدى إليها هو ما أسميه "التلوث الحضاري" الذي أدى إلى تلوث العلاقات الإنسانية وتشويهها، وإلى التحكم في الإنسان جسمياً وعقليا عن طريق بعض العقاقير. فتقنيات التوجيه والترويج اليوم تتيح توجيه خيار الإنسان وهناك أيضاً وسائل الدعاية الأخرى، فما وصل إليه التحكم بالعلم أدى إلى نفي حرية الإنسان ولإضرار بمكانة الطبيعة.

في رواياتك رؤية فلسفية تستند إلى قراءة التاريخ، هل تعتقد أن مصير الإنسان يسير باتجاه نهايته وموت "الإنسانية" مع الزمن؟

دائماً ثمة هذه النظرة التي قد تكون تشاؤمية لكن هناك أيضاً التفاؤل. يوجد الحب المستحيل وفي مقابله هناك جماعة تدعى أصدقاء الحب، وليس الحب الجسدي، بل عند أفلاطون الحب هو الحقيقة: وجمعية أصدقاء الحب تحاول أن تخلق مشروعاً جديداً للمجتمع. أنا لست متشائماً تماماً، فحتى في المجتمعات التقنية اليوم هناك أصوات كثيرة بدأت تتدارك أخطاء المجتمع، كالدفاع عن البيئة والرجوع إلى كل ما هو طبيعي.

لكن هذه لا تشكل قوى السيطرة؟

أظن أنها بداية، ويمكن أن يكون هذا هو المستقبل. لو تدارك الإنسان أخطاءه، يمكن أن تتقوى هذه الاتجاهات، ويمكن أن تظهر اتجاهات تصحح من مسار البشرية. عندما تلقي نظرة على التاريخ تجد أن المجتمعات عندما تقع في كارثة تكون أمام احتمالين: إما أن تقوم نخبة في المجتمع تدعو إلى الإصلاح، ويتدارك المجتمع المشكلة ويأخذ مساراً جديداً، وإلا فستموت الحضارة. نحن أمام خيارين: إما أن نرضخ للاتجاه الحالي، وإما أن نصحح أخطاءنا ونسير في اتجاه جديد قد ينقذ البشرية من الأخطاء التي ارتكبت.

ما تأثير الفلسفة في روايتك، وإلى أي حد تستفيد الرواية من قراءاتك الفلسفية؟

أولاً، تتجسد هذه الاستفادة في شخوص الرواية، خصوصاً عبر شخصية أبو الهامة الذي هو سقراط، كما قرأنا في كتاب "الثناء على سقراط" لأفلاطون، فهو يصفه بأنه رجل قصير القامة، عظيم الهامة، شديد الدمامة. في الروية، يرمز أبو الهامة إلى الخير، ويدعو إلى اعتزال البشر والذهاب إلى الصحراء وانتظار أمر الله. وهذا استلهام لآية من سورة الكهف: ۞وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا ۞

بين الخيال العلمي والتراث

اعتمدت الخيال العلمي في روايتيك، هل يساعد ذلك على فهم العالم والتاريخ والإنسان؟

الخيال العلمي عندي هو أداة لاستقراء بوادر المستقبل في مجتمع اليوم وتصور ما ستؤول إليه؛ فأنا أنطلق من الواقع إلى الخيال العلمي.

لماذا تعمدت تغريب الواقع، وتحويل الشخوص إلى سحرية خرافية أو مقبلة من فضاء آخر، خصوصاً الفصل الذي يتحدث عن مداخن النفايات السامة، لماذا هذا التعامل السحري مع الواقع؟!

قد يكون هناك جانب سحري، لكن هناك أيضاً جانب واقعي. فإذا كنت تتذكر وصف مخازن النفايات السامة، التي هي في الفصل الأخير، ترى أنني قد وصفتها انطلاقاً من معايير الأمم المتحدة لتخزين النفايات السامة.

هذه الشخصية التي تلبس سترة الاختفاء وتختفي، أين يمكن أن نجد مصدرها، هل في ألف ليلة وليلة، أم هي تابعة للخيال العلمي أكثر؟!

- فسترة الاختفاء "مصنوعة من قماش خاص يصدر أشعة تحت حمراء." كما جاء في الرواية. تقول عنها سولما التي ترتديها: "عندما أكون في ثيابي العادية، وبسرعتي العادية التي تبلغ 299 ألف كيلومتر في الثانية، أظهر بلون ثيابي، لأن الأشعة تحت الحمراء الصادرة عنها تتوزع على موجة قصيرة. لكن عندما لا أسير بسرعتي العادية، كأن أسير بسرعتكم مثلا، تصبح رؤيتي مستحيلة، لأن الأشعة تحت الحمراء صارت على موجة طويلة..." هي إذا تنتمي إلى الخيال العلمي أكثر، فالبعض قال عنها إنها استقراء للتراث، لكنه عالم مستقبلي وخيالي علمي... وأنا دائماً انطلق من معطيات علمية، فالنظرية تقول إن الأشعة تحت الحمراء، عندما تكون بسرعة بطيئة، لا يمكن للبشر أن يراها. هذا قانون علمي معروف منذ الخمسينات.

هل يمكن أن نتحدث عن العلاقة بين الرواية والمدينة، فموريتانيا بلد صحراوي، كيف يمكن أن تنجح هذه الرواية، فهي رواية معقدة تحتاج إلى حياة مدنية؟

لا بد هنا من مراجعة بعض المفاهيم النقدية. في مجتمع اليوم، لم نعد بدواً ومتحضرين، هناك تواصل يربط بين البادية الخليجية والموريتانية وحتى القطب الشمالي، هي قرية كونية! فالإنتاج الذي بين يديك الآن هو نتاج قرية كونية فيه هموم بيئية وسياسية، واقتصادية تعني الجميع، بالرغم أن الحضارة المحلية الموريتانية هي أساس القص والسرد، وهي مكان الرواية.

كنت سألتك عن الثورة التكنولوجية وما يشبه الإدانة لها في الرواية، فإلى أي حد تتحمل الثورة التكنولوجية مسؤولية الانهيار الأخلاقي والإنساني؟

إذا نظرنا إلى تدمير المجتمعات المتقدمة، نرى أن التقنية مسؤولة عن غياب العلاقات الإنسانية في هذه المجتمعات. ألفرد نوبل عندما اخترع الديناميت كان يفكر في استخدامه لخدمة البشرية. وعندما اختَرعت الطاقة النووية كان من المفروض أن تكون في خدمة البشر. لكن وقعت هيروشيما وكوارث أخرى.