شوقي بزيغ يكتب عن حج الفِجا

شوقي بزيغ يكتب عن حج الفِجار

 

 

يحرص الروائي الموريتاني الذي يكتب بالفرنسية والعربية موسى ولد أبنو على تنويع عوالمه الروائية التي تتعدد مناخاتها بحيث يختلف كل عمل من أعماله عن الآخر، فلا يكون صدى لما قبله ولا تمهيداً لما بعده. ففي عمله الأول المنقول إلى العربية مدينة الرياح نتلمس عوالم الصحراء والسحر والفقر وتداخل الواقع مع الأسطورة والماضي مع الحاضر؛ بينما يذهب عمله الثاني الحب المستحيل باتجاه المستقبل مقتربا مما يمكن تسميته بأدب الخيال العلمي. أما روايته الأخيرة حج الفجار، صدرت عن دار الآداب ونقلها ولد أبنو بنفسه إلى العربية، فيمكن أن تندرج ضمن خانة الرواية التاريخية تبعا لموضوعها وأجوائها التي تعود بنا القهقرى إلى حياة عرب الجاهلية ومعتقداتهم وطقوس عيشهم. ومع ذلك فإن القاسم المشترك بين روايات ولد أبنو يتمثل في اتساع مخيلته الروائية وفي بنائه السردي المحكم وقدرته الفائقة على الدمج بين الواقع والفانتازيا، إضافة إلى عصب لغته المتوتر والنابض بالحياة.

 

تدور أحداث رواية ولد أبنو الجديدة حج الفجار في زمن الجاهلية المتأخرة وتحديداً في السنة الثالثة والخمسين التي أعقبت عام الفيل، أي العام الذي زحف فيه الحبشي أبرهة الأشرم على مكة وحاصر الكعبة قبل أن ينكفئ إلى بلاده مهزوماً. والرواية، كما جاء على غلافها الأخير، هي  «الأولى من ثلاثية تتناول موضوع الحج عبر العصور بدءاً من العصر الجاهلي وحتى سنة ثلاث وخمسين بعد الحادي عشر من سبتمبر». ما يعني أن ثمة استتباعات أخرى للرواية التي بين أيدينا من جهة، وأن المؤلف بقيم نوعا من المقارنة المضمرة بين عام الفيل الذي كانت الطيور الأبابيل عنوانه الميثولوجي الرئيسي وبين الحادي عشر من أيلول الذي استبدلت فيه الطيور بالطائرات المغيرة، من جهة أخرى.

 

الرواية، كما يوحي عنوانها، تتركز حول موسم الحج لدى الجاهليين وما يسبقه ويكتنفه من محطات وطقوس وشعائر. واختيار مسرح السرد لم يكن كما يبدو من قبيل المصادفة، بل لأن المؤلف قد وجد فيه على الأرجح المسرح الأكثر كثافة وتنوعاً وتعبيراً عن حياة العرب وسلوكياتهم المختلفة عشية ظهور الإسلام، الذي تفرد له الرواية بعضا من صفحاتها. واذا كان لدى بعض قبائل الجاهلية أكثر من مكان وجهة يحجون إليها، تبعا لمعتقداتهم الدينية المختلفة أو للأماكن التي يقيمون فيها أصنامهم وأوثانهم الكبرى، فإن الحج إلى مكة كان الجامع المشترك بين القبائل والموسم الأكثر اكتظاظا بالحشود التي تندفع من كل جهة وصوب لعرض «بضاعتها» الشعرية وللإفادة من فرصة البيع والشراء في سوق عكاظ الشهير.

 

ثمة مناخ ملحمي واضح تعكسه الرواية منذ صفحتها الأولى حيث يقدم لنا المؤلف وصفاً دقيقاً ومشوقاً لذلك السهل الفسيح الذي يقوم فوقه سوق عكاظ الذي يستهل به العرب موسم حجهم السنوي. فالقارئ يجد نفسه فجأة ودون مقدمات أمام عالم شبه هوميري يختلط فيه البشر بالآلهة وتزحف النسور فوق الرؤوس لكي تقتات من لحوم النذور والقرابين المقدمة من القبائل زلفى وتقرباً إلى آلهتها: «جاءوا راكبين كل صعب وذلول ومترجلين وافدين على موسم عكاظ، تحدوهم الكواسر من النسور في مرانبها السوداء والعقبان خزر العيون تحثّهم، موقنة أنها ستجد قوتها بوفرة في لحوم القرابين على أنصاب عكاظ». إنها النسور نفسها التي تحدث عنها النابغة الذبياني في إحدى قصائده والتي كانت ترافق الجيوش في غزواتها طمعاً بصيد وافر. أما وإن الأشهر الحرم تحرّم على العرب الغزو والثأر والاقتتال فإن القوت الممكن تقديمه للطيور لا يتمثل هذه المرة بلحم البشر المقتولين بل بلحم المواشي التي تنحر بكثرة في موسم الحج.

 

لا نقع في رواية ولد أبنو على بطولة فردية مطلقة أو على أبطال رئيسيين يتقاسمون مسار الأحداث كما في الكثير من الروايات. ذلك أن البطولة هنا للجماعة من ناحية وللمكان والزمان من ناحية أخرى. وربما كان اختيار موسم الحج الذي تتداخل فيه الحشود وتتعايش الأضداد وتذوب الفوارق وتحقن الدماء هو بحد ذاته اختياراً للحظة البطولة الجماعية في ذروة احتدامها وتألقها واتصالها بالغيبي والماورائي. هكذا نعثر في الرواية على متوازيات سردية يوفرها لنا مناخ الحشد في عكاظ حيث يعمد المؤلف إلى التنقل المستمر بين المجموعات المتحاورة والمشاهد المتباينة حيث يلتقي فوق ساحة واحدة «تجار وكهنة وسحرة ومومسات وسدنة وحكماء وخطباء ومتنبئون ومتوسمون للثأر وقابلات وضاربات حصى... وشعراء يبحثون عن الشهرة.» من بين هؤلاء الشعراء نتعرف على لبيد بن ربيعة الذي يجيء إلى عكاظ ضمن رهط كبير من بني عامر طمعاً في إيصال صوته إلى الحكم الذي يحتكم إليه الشعراء جميعاً قبل أن يقول فيهم كلمته الفصل. ولعل الحوار الذي يقوم بين لبيد وبين شيطان شعره بعد أن نهاه العرافون عن المثول أمام الحكم في تلك السنة هو من أجمل فصول الرواية وأكثرها براعة في توصيف العلاقة بين الشعراء ومصادر إلهامهم. فشيطان لبيد يتمثل له في هيئة حيوان مشوه وغريب الهيئة ويمكّنه من رؤية شياطين الشعراء الآخرين المجتمعين بإمرة إبليس، كما أنه يملي عليه معلقته الشهيرة التي جعلت الحكم يهتف بلبيد «أنت أشعر بني عامر». وحين تسمع المومس الحسناء مهدد بقصيدة لبيد تلجأ إلى كاهنة جِهار لكي تساعدها على امتلاك قلب الشاعر ودفعه إلى أن يخصها بقصيدة غزل أو تشبيب كما فعل النابغة مع المتجردة.

 

ينصرف الحجيج بعد عكاظ إلى محطات أخرى من بينها مجنة الواقعة بينجبلي شامة وطفيل، حيث يختلط الجن بالبشر ويتجسمون على صور السحالي والحيوانات الصغيرة والغيلان، وحيث يستعين زهير بن الهبولة بالعرافين ومفسري الأحلام ليقرأ طالعه بعد أن تنبأت له قريش بالقتل على يد خارجة بن ندبة. بعد ذلك تعرض الرواية لمحطات الحج المختلفة في عرفة ومنى والمزدلفة وإلى رمي الجمار وصولاً إلى الطواف حول الكعبة التي تضم أبرز الأصنام والأوثان وأكثرها شهرة. لكن الفصل الأكثر جرأة وإثارة في الرواية هو ذلك المتعلق بقصة الحب الغريبة والمدهشة التي جمعت بين همام بن الخطيم وبين أسماء العدوية، التي كانت أجمل نساء عصرها يومذاك. فقد قرر همام تلك السنة ألا يعرج على «حِرْمِيّه» الذي تقتضي الأعراف بأن يعيره ثياباً يعتمرها أثناء الطواف وإلا فإن عليه أن يطوف عارياً من أي ثياب. ذلك أن الفتى العاشق كان يوثر أن الحل الثاني الذي يمكنه من الالتصاق بأسماء والنيل منها، حتى لو خالف بذلك أعراف الحج التي تحرم القتل كما الاقتراب من النساء خلال المناسك المختلفة. أما المرأة التي تمنعت في البداية فقد جاءها إبليس «في صورة شيخ نجدي أعور على بعير له أصهب، في نظرته بريق مغو وفي فمه اعوجاج... فسايرها في الأبطح وأوحى لها ما أوحى قبل أن يتوارى عند مشارف مكة». وإذ التحم بها همام وسط الجموع وجد نفسه فجأة غير قادر على الانفصال عنها إلا بعد أن دعا الله مخلصاً بالتوبة والكف عن انتهاك حرمة الحج.

 

يندفع قارئ موسى ولد أبنو في قراءة روايته بمتعة غامرة وبفضول شديد لمعرفة ما استغلق من جوانب ذلك العالم الذي قلّ أن تصدى له الروائيون العرب أو نهلوا من معينه باستثناء أعمال قليلة من بينها رواية زهرة الجاهلية  للمغربي سالم حميش والتي تتقاطع مع رواية ولد أبنو في الجانب المتعلق بالشعر وقدرته الفائقة على إغواء النساء. وإذا كان حميش قد قارب عالم الجاهلية بلغة عصره الحديثة والواضحة فإن ولد أبنو يقارب ذلك العالم بلغة مختلفة تحاكي لغة الجاهليين في غرابتها وصعوبتها ووعورة مفرداتها ومصطلحاتها التي يحتاج تفسيرها إلى معجم. وهذه الخاصية لا تنسحب فقط على النصوص المنسوبة إلى الجاهليين أنفسهم، كذلك الرجل الذي وقف يخطب في عكاظ ويقول:  «أنا رجل من هوازن، قد وطّأ لي الدهر كنفه، ورحّب بي عيش ونما في بيت ثم جعجع بي الدهر عن ثمّه ورمّه، وأتلاني زغاليل حمر الحواصل...» بل على لغة ولد أبنو نفسها التي تضج بالمفردات والتراكيب الصعبة وغير المفهومة إلا من خلال السياق العام للسرد. وإذا أضفنا إلى صعوبة الأسلوب النثري صعوبة موازية في النصوص الشعرية المنسوبة إلى لبيد وغيره من الشعراء، والتي لم يشأ المؤلف أن يضع شروحاً لها كي لا تفقد الرواية عفويتها وتلقائيتها، لبدا لنا واضحاً مقدار الجهد الكبير الذي يجب على القارئ أن يبذله لكي يتخطى حاجز اللغة وصولا إلى متعة القص وجماليته المدهشة.

 

النقطة الثانية التي تنبغي الإشارة إليها في هذا السياق هي تلك المتعلقة بالمدى الذي يمكن لكاتب الرواية التاريخية الوصول إليه في علاقته بالنصوص والمراجع التاريخية الأصلية. فلقد خطر لي بعد قراءة حج الفجار أن أعود إلى مرجع أساسي من المراجع المتعلقة بعرب الجاهلية وهو كتاب جواد علي الشهير تاريخ العرب قبل الإسلام، فوجدت أن ولد أبنو قد استعان بصفحات كاملة من صفحات الكتاب المذكور ونقل بعضها نقلاً حرفياً، وخاصة ما يتعلق بتلبية الحجيج وطقوس الطواف وبخاصة طواف النساء العاريات وما ينشدنه في المناسبة، إضافة إلى نصوص أخرى وردت بحرفيتها في كتاب الحيوان للجاحظ، كالنص المتعلق بالأفعى والطائر، أو نصوص مماثلة لعمر بن أبي ربيعة، دون أن تنسب هذه النصوص إلى أصحابها الأصليين مما يدفع القارئ إلى الخلط بين ما هو للمؤلف وما هو لسواه. ورغم النقاش الذي يمكن أن تستدعيه هاتان الملاحظتان الهامتان فإن رواية موسى ولد أبنو حج الفجار هي رواية مدهشة وشديدة التميز وجديرة بالقراءة.