حكاية العصر الجاهلي

 

 

حج الفجار، حكاية العصر الجاهلي

                                            بقلم: د/ موســى ولد أبــنــو

 

 

 

تدور أحداث حج الفجار (دار الآداب 2005) في زمن الجاهلية المتأخرة وتحديداً في السنة الثالثة والخمسين التي أعقبت عام الفيل وتتناول حياة عرب الجاهلية ومعتقداتهم وطقوس عيشهم، لتروي حكايات العصر الجاهلي التي قُصَّتْ وكُتِبَتْ في ما مضى، فتنتج كتابة مكرَّرة لهذا التاريخ. نحن اليوم أمام صورتين مختلفتين إلى درجة التناقض عن العصر الجاهلي تقدمها لنا كتب التراث، وكذلك الدراسات الحديثة: فهناك من جهة الصورة التي تبدو وكأن كل وظيفتها تبرير وصف ذلك العصر بالجاهلي. وهناك من جهة أخرى صورة عن العصر الجاهلي قوامها حياة فكرية نشطة، وأسواق للفكر والثقافة... تبعث رواية حج الفجار هذا الماضي من جديد، لأنه لا ينبغي تدميره، ويجب إحياءه، حيث أن تدمير الماضي يؤدي إلى الصمت، كما يقول أمبرتو إيكو.

 

تزخر رواية حج الفجار بكل ما حفل به التراث القومي العربي من أصول شعرية ونثرية (أيام العرب، قصص الجاهلية اليمنية، القصص القرآني، السير الإسلامية، المقامات، أسجاع الكهان، ألف ليلة وليلة...) والتي مازالت تتردد على ألسنة العرب وفي وجدانهم. لكن الشعر الجاهلي كان العنصر الأهم في الرواية، حيث تحكَّم في شعريتها، في الزماكاني، في الشخوص وفي الأسلوب اللغوي. هذا الحضور الكبير للشعر الجاهلي مستوحى من أهمية الشعر عند العرب القدامى التي جاء التعبير عنها في الرواية على لسان النابغة الذبياني (ص. 29). وتتمثل أهمية الشعر الجاهلي كإبداع تاريخي في كونه مصدرا خصبا يستدل منه على ملامح تلك الفترة التاريخية ويساعدنا على فهمها ومعرفتها. فهو ديوان العرب والسجل الحافل بأخبارهم، وهو الذي استودعوه قصصهم وأحداث حياتهم.

 

1-البنية:

 

تدور أحداث حج الفجار في زمن الجاهلية المتأخرة. والرواية كما يوحي عنوانها تتركز حول موسم الحج لدى الجاهليين وما يسبقه ويكتنفه من محطات وطقوس وشعائر، فشكل الحج مسرحا للسرد، لأن الحج إلى مكة كان الموسم الأكثر كثافة وتنوعا وتعبيرا عن حياة العرب وسلوكياتهم المختلفة، ولأنه الأكثر اكتظاظا بالحشود التي تندفع من كل حدب وصوب لعرض "بضاعتها" الشعرية وللاستفادة من فرصة البيع والشراء في سوق عكاظ الشهير. وكان الحج في الجاهلية أيضا موسما للشعر لأن الشعر كان مقدسا. فالسموط المذهبات وروائع الشعر الجاهلي كانت ترى النور في سوق عكاظ، أولى محطات الحج، بعرضها أمام حكماء الشعر الجاهلي (وآخرهم النابغة الذبياني)، قبل أن تعرض على أندية قريش في مكة، التي قد تجيزها للتعليق على أستار الكعبة أو جُدُرها.

 

تتوزع الرواية على أربعة فصول تتشكل وفق محطات الحج، كما توحي بذلك عناوينها: (إحرام، وقوف، تشريق، طواف). ففي الفصل الأول نتعرف على الشاعر الجاهلي المخضرم لبيد ابن ربيعة، الذي جاء إلى عكاظ في رهط من قومه بني عامر، طمعا في إيصال صوته إلى النابغة، الذي يحتكم إليه الشعراء جميعا ليقول فيهم كلمته الفصل. نرى لبيدا يستقسم بالأزلام أمام الآلهة لمعرفة طالعه، وهل يتجرأ على عرض شعره أمام الحكم؛ ثم نراه يروى لنا الرؤيا التي وقعت عليه (الرواية ص 19) والتي تمثل نوعا من الاستحضار الخيالي للمثول أمام النابغة. ثم نرى شيطانه يتغول له ليملي عليه معلقته الشهيرة، قبل أن يأخذه إلى نادي شياطين الشعراء. وتمضي الرواية لتحكي لنا قصة إنشاد القصيدة أمام النابغة، الذي اصدر حكما بتفوق لبيد على شعراء قيس كلها. وحين تسمع المومس مهدد بحكم النابغة للبيد تلجأ إلى كاهنة جِهار لكي تساعدها على امتلاك قلب الشاعر ودفعه إلى أن يخصها بقصيدة غزل أو نسيب.

 

وفي مطلع الفصل الثاني، وقوف، ينصرف الحجيج من عكاظ إلى محطات أخرى من بينها مجَنَّة وعرفة ومزدلفة ثم منى، وفي الفصل الثالث، تشريق، ترد بعض أشعار الجاهليين ضمن حلقات ذكر الآباء عند جمرة العقبة. أما في الفصل الأخير، طواف، فترد أشعار أخرى وتعليقات كثيرة على شعر لبيد الذي يعرض قريضه أمام أندية قريش. وتُختم الرواية بمشهد لبيد وهو يتجول في جوف الكعبة، ينظر إلى القصائد مفاخر العرب معلقة على أركان الكعبة وقد كتبت في القُباطي بماء الذهب، فيَهُم بالاقتراع عند هبل على مآل شعره.

 

هكذا تسير الرواية على منوال المعلقة، فتبدأ في عكاظ لتكتمل في مكة. إن حضور المعلقة الجاهلية كبير في النص وهو عميق وشامل يتجاوز حد التأثر إلى النقل والاقتباس، وامتد من البنية الروائية إلى الجو العام والقيم والشخوص والأساطير والرموز. وهذا يدلنا على صلاحية الشعر الجاهلي لتغذية الفن الروائي الحديث، بالرغم من اختلاف الأشكال. فبهذا النقل للشعر الجاهلي إلى إطار الرواية حاولت حج الفجار إعادة كتابة هذا الشعر وأشكال أخرى من أدب العصر الجاهلي، موظفة بذلك فنيات التناص في أقصى حدودها.

 

إن اختلاف الأشكال الأدبية يقودنا إلى التساؤل عن العلاقات المتينة التي تربط النصوص عبر الزمن، وذلك بغض النظر عن التميز التقليدي ما بين الشعر والمسرح والرواية. تتجلى هذه العلاقة في إشكاليات التناص، لأن المبدع لا يعدو أن يكون معيدا لإنتاج سابقيه في حدود من الحرية والتصرف.

 

لقد حدد جرار جنت Gérard Génette في كتابة Palimpseste Seuil,1982)) خمسة أنواع من التجاوز النصي Transtextualité وذلك على النحو التالي:

- التناص، Intertextualité ويعني الوجود الفعلي لنص ضمن أخر،

- شبه التناص، Paratextualité ويعني وجود إشارات في نص تحيل على نص آخر،

- التعليق، métatextualité ويعني التعليق على النص المستحضر،

- الجمع النصي، Architextualité وهو العلاقة المجردة الأكثر ضمنية ما بين نص و آخر،

- التناص الفوقي، Hypertextualité ويعني كل علاقة تجمع بين نصين يُزرع أحدهما في الآخر.

وهذه الأنواع كلها من التناص وُظفت لاستحضار الأدب الجاهلي ضمن رواية حج الفجار التي تعبق بأريج الثقافة الجاهلية شعرا ونثرا وحكايات ورؤى وأساطير. فالرواية تمتح من روائع المعلقات والأهزاج وأسجاع الكهان وخطب الفصحاء وأشعار المنافرة، دون أن تنسى مظاهر الحياة الاجتماعية وخاصة ما يتعلق بحقل المختلقات والرقية والاستشفاء. وقد ورد نص معلقة لبيد كاملا في متن الرواية بصيغتين مختلفتين، إذ عرض في لحظات تشكله الأولى على لسان شيطان لبيد (ص 33 – 34)، قبل أن ينشده الشاعر أمام الحكم (ص.48- 54)، ثم في مكة أمام أندية قريش. كما وردت في الرواية تعليقات كثيرة ورؤى نقدية تناولت المعلقة. ووردت أيضا نبذ أخرى من أشعار لبيد، مثل البيت الذي أنشده في نفسه شفقة على شحاذ عكاظ (ص.16):

لحا الله هذا الدهر إني رأيته    بصيرا بما ساء ابن آدم مولعا!

 

كما وردت أيضا في الرواية قصيدة المتجردة، دالية النابغة الشهيرة، التي ألقاها هَاذر، شيطانه، في جو ملْتهب أمام شياطين الشعراء المنتدين في عكاظ تحت إمرة شيخهم إبليس، قبل أن ينشدها لبيد أمام المومس مهدد المُتلهِفة ( الرواية ص.60). أما تناص الرواية مع شعر امرئ القيس فجاء على شكلين تجلى أولهما في إيراد بيت من بائيته المشهورة، ورد في وصف حال أرق لبيد بالمحصب: «...لم يستطع لبيد الهجوع بالمحصب: طار نومه، بقي متكئا على دقاق الحصى المتلألئ تحت ضوء القمر الباهر، ومن حوله السامرون الذين أرادوا اغتنام فرصة اللقاء قبل فراق المحصب...» فيخطر في ذهنه بيت امرئ القيس:

فلله عينا من رأى من تفرق ... أشت وأنأى من فراق المحصب (ص.165)

وأخذ ثانيهما شكلا شبه تناصي في مواضع مختلفة من النص على النحو الآتي:

  - «...تصد و تبدي عن أسيل(...) ثم تلتفت إلي بناظرة مطفل من وحش وجرة...»( ص 19) يحيل إلى قول امرئ القيس:

تصد وتبدي عن أسيل وتتقي   بناظرة من وحش وجرة مطفل

  - «...عذارى جهار يرقصن في ملائهن المذيل...»( ص 43) يحيل إلى قول امرئ القيس:

فعن لنا سرب كأن نعاجه   عذارى دوار في الملاء المذيل

  - «...كان لبيد جالسا بفناء قبة عمه التي بثت أمامها الفرش. أقبل رجل طويل وسيم، متى ما ترقى العين فيه تسفل...» (ص.56(. يحيل على قول امرئ القيس:

ورحنا وراح الطرف ينفض رأسه   متى ما ترقى العين فيه تسفل

  - «...لم تبك لأنك مظلومة و إنما بكيت لتقدحي في قلب مذلل منقاد...»( ص 119). يحيل على قول امرئ القيس:

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي   بسهميك في أعشار قلب مقتل

-           «...صباح قزح لا صباحك. يمين الله مالك حيلة فيما قصدت له...»(ص 104). يحيل إلى قول امرئ القيس:

فقالت يمين الله مالك حيلة   وما إن أرى عنك الغواية تنجلي

 

أما في ما يخص عمرو بن كلثوم فقد جاء ت في الرواية إشارات تحيل على معلقته كما في:

- «...ترقص بذراعي عيطل أدماء...» ( ص 19). يحيل إلى قول عمرو:

تريك إذا دخلت على خلاء   وقد أمنت عيون الكاشحينا

ذراعي عيطل أدماء بكر    هجان اللون لم تقرأ جنينا

- «...وتتحول فوق ظهر الناقة لتريني ثديا رخصا مثل حق العاج..» (ص 19). يحيل إلى قول عمرو:

وثديا مثل حق العاج رخصا   حصانا من أكف اللامسينا

- «...توليني ظهرها لتريني متني لدنة طالت ولانت روادفها وساقي رخام أو بلنط...» (ص 19). يحيل على قوله:

ومتني لدنة طالت ولانت   روادفها تنوء بما وليـنـــا

وساريتي بلنط أو رخام    يرن خشاش حليهما رنينا

 

وجاء استلهام شعر طرفة والشنفرى على طريقة شبه التناص أيضا. فالأول حاورته الراوية عبر:

- «...مالت إلى الخوان وهي ترنم بمطروفة لم تشدد...» (ص. 159). فهو يحيل على قول طرفة:

إذا نحن قلنا أسمعينا انبرت لنا   على رسلها مطروفة لم تشدد

 

أما الثاني فحاورته الرواية من خلال:«.. كان أبي ذا أنفة يسلب ولا يطلب، كان يطيل الصبر على الجوع حتى يذهل عنه...وكان يفضل أن يستف التراب على أن يكون لإنسان عليه نعمة...» ( ص 132). يحيل على قول الشنفرى:

أديم مطال الجوع حـتــــــى أميته    وأضرب عنه الذكر صفحا فأذهل

وأستف ترب الأرض كيلا يرى له   علي مــــن الطول أمــرؤ متطول

 

ووردت نماذج أخرى من الشعر الجاهلي كشعر ضرار بن الخطاب(ص 130) وعروة بن الورد( ص 132 – 133) وعبد المطلب(ص 144) والزبير بن عبد المطلب (ص 192) وعثمان بن مظعون( ص171)...

 

 

2-الشخوص:

 

لا نقع في رواية حج الفجار على بطولة فردية مطلقة، فنجد أبطالا متعددين يتقاسمون الأحداث، لأن البطولة الرئيسية هنا للجماعة، من ناحية، وللمكان والزمان من ناحية أخرى. فاختيار موسم الحج الذي تتداخل فيه الحشود وتتعايش الأضداد وتذوب الفوارق وتحقن الدماء هو بحد ذاته اختيار للحظة البطولة الجماعية في ذروة احتدامها وتألقها واتصالها بالغيبي والماورائي. هكذا نعثر في الرواية على متوازيات سردية يوفرها لنا مناخ الحشد في عكاظ حيث يعمد الحكي إلى التنقل المستمر بين المجموعات المتجاورة والمشاهد المتبادلة حيث يلتقي فوق ساحة واحدة «تجار وكهنة وسحرة ومومسات وحكماء وخطباء ومتنبؤون ومتوسمون للثأر ومتوسمات وقابلات وضاربات حصى وزاجرات طير وشحاذون وعبيد وحراس قوافل وصناع ورعاة وجزارون وأشراف يبحثون عن السؤدد وشعراء يبحثون عن الشهرة ورواة يبحثون عن شعراء ومغنيات وقينات وراقصات ومطبلات وعشاق وفرسان مقنَّعون وغير مقنعين وصعاليك...»(ص 20).

 

 نجد أيضا في الرواية شخوصا شبه محوريين يمثلون وجوها تاريخية في الشعر الجاهلي مثل لبيد بن ربيعة والنابغة الذبياني، كما نجد خطباء وكهنة ينافسون بأسجاعهم قريض الشعراء. وإذا كان الحكم قد رفض أن يعرض أمامه سَجع الكهان، ليختص الشعراء بتحكيمه، مفضلا الشعر على السجع، فإن الشيخ إبليس قد حكم أمام ذريته من الشياطين بأسبقية السجع على الشعر.

 

ونجد أيضا من بين شخوص الرواية زمرة من شياطين الشعراء مثل هاذر، شيطان النابغة ولافظ بن لاحظ، شيطان امرئ القيس والشيخ إبليس وأبناؤه (زلَمبور، داسِم، تبر، الأعور، ومِسْوطْ) وثلة من رِئِيي الكهنة وبعض التوابع من الجن كأم حَمَل. كما تلوح شخوص كثيرة أخرى تظهر تارة وتختفي في حشود الموسم مثل همام بن الخطيم وأسماء العدوية وزهير بن الهبولة وطفيل بن عمرو وخارجة بن ندبة وغيرهم.

 

ظهر أيضا في الرواية شخوص آخرون يمثلون سدنة الأصنام، مثل مالك الذي ينتمي إلى أسرة آل عوف النصريين، سدنة جِهار وأبو الأشهل من الغطاريف، سدنه مناة ودبية بن حرمي الشيباني، من بني شيبان، سدنة بيت العزى بنخلة... ومن شخوص الرواية من هم وجوه تاريخية حضرت في الرواية دون تصرف كمحمد رسول الله وكثير من أصحابه. ومن الشخوص التاريخية من وردت سيرته بشكل شبه متخيل كلبيد والنابغة الذبياني وقس بن ساعدة وسدنة الأصنام وأسماء العدوية...الخ. كما نجد أيضا شخوصا متخيلة تماما مثل المومس مهدد ومحمود الذي يرمز إلى فيل أبرهة الحبشي ومرثد الخير بن حناطة الحميري وباهوش، شيطان المَرْوَة الذي أغرق السفينة وألقى بها على شاطئ الشُّعيبة، الميناء القديم لمكة.

 

 

3-الزمان

 

تبدأ أحداث الرواية في فجر اليوم الأول من ذي القعدة من سنة 53 بعد عام الفيل، وهو اليوم الأول من موسم سوق عكاظ الشهير، كما يمثل فاتحة موسم الحج، وتنتهي مع نهاية الموسم. وسوق عكاظ عرف أول ما عرف بأنه الموسم الذي يحتكم فيه الشعراء من كافة أنحاء البلاد العربية إلى حكماء الشعر الجاهلي. فزمن الرواية إذن هو زمن الحج والشعر، وله القداسة التي جمعت بينهما في الجاهلية. فزمن الرواية إذن هو هذا الزمن المقدس الذي كان يمتد طيلة الأشهر الحرم.

 

يمثل زمن الحج إيقاعا ممتدا على فضاء الرواية وهاجسا محوريا من بدئها لختامها وإطارا مرجعيا ينظم إيقاعات اللغة والأماكن والشخصيات والمشاعر والأفعال والرؤى والعلاقات، حيث يقوم إيقاع الزمن المتقطع، ما بين محطات الحج المختلفة، بضبط الحالة المركبة التي تجسدها شخصية الشاعر لبيد شبه المحورية في الرواية، وهو إيقاع ينطوي على تنويعات نغمية صاعدة وهابطة.

 

شكل زمن الحج إيقاعات القص المتعددة في الترتيب والتواتر، في الارتجاع والاستباق، في الاستطراد والاقتضاب، في التفصيل والتكثيف، في الاتساق والتنافر، وفي التداخل والتقاطع.

 

4-المكان:

 

لا ينفصل المكان عن الزمان في لحظة التقاطع السردي بين زمنين هما زمن الشعر وزمن الحج، فهو على نحو أدق تقاطع زمكاني (بتصور خاص لهذا المفهوم الباختيني) والزمان -كما هو ملاحظ -سابق على حدود المكان. فالزمان هو روح المكان، مثلما هو محرك الشخصيات والأحداث، كما أن المكان يحمل وشم الزمن ويجسده علائميا.

 

يُستهل حضور المكان بوصف واقعي دقيق لذلك السهل الفسيح الذي تقوم فوقه سوق عكاظ، فنرى السارد يجول بصره في ذلك المدى الممتد وينقله ليعطينا صورة بانورامية شاملة الرؤية، كما تتحرك الكاميرا على محورها في أثناء التصويرPanoramiqueTraveling:

 

«في فجر هذا اليوم الأول من ذي القعدة من سنة 53 بعد عام الفيل، خرج مالك سادن جهار من المعبد، رأى الناس وقد سال بهم السهل الفسيح. سطعت أسنمة الدواخن وارتفع الغبار في الآفاق. جاؤوا راكبين كل صعب وذلول ومترجلين، وافدين على موسم عكاظ، تحدوهم الكواسر من النسور في مرانبها السوداء والعقبان خزر العيون، تحثهم موقنة أنها ستجد قوتها بوفرة في لحوم القرابين على أنصاب عكاظ. حلُوا بصحراء عكاظ التي لا عَلم بها إلا ما كان من الأنصاب التي تكدست عليها دماء القرابين، فجفت الطبقة منها فوق الطبقة حتى انتهت في تراكمها إلى ما يشبه الأرحاء العظام، شامخة في ذلك السهل الممدود والمتسع» (ص5).

 

ثم تمضي الرواية لتصف لنا البيع والحشود:

 

«ما إن بدأت الشمس تميل حتى قام البيع واجتمع الألوف. امتزجت روائح الطيب بروائح الأبزار والغبار والعرق، وبالأصوات من كل اللغات والنبرات: فراتية العراق وكشكشة أسد وكسكسة بكر وغمغمة قضاعة وطمطمانية حمير، امتزجت أصوات البشر والحيوان بقعقعة الأشياء وطقطقتها وصليلها وطنطنتها وبرنين الكؤوس وخفخفة القماش وخشخشته وبأنين الجواري الخافت، وقد نُزعت دروعهن وجُلين في أثواب تشف عن ألوان بشرتهن وتصف محاسنهن: إنها جلبة الأشياء والكائنات في أصيل عكاظ. بدأ سرْو اليمن يعرضون تجارتهم، فعمت السوق روائح جبال اليمن المنعشة و ألوان منتجاتها الزاهية...»(ص14-15).

 

 ثم تصف الرواية المعروضات على لسان الشاعر لبيد المتجول في السوق والذي تقوده «الهيمة إلى معروضات الفواكه كالتين والعنب والرمان والسفرجل والخوخ والاترج والجوز والمقل والبطيح والقثاء والبقول كالباذنجان واليقطين والسلجم والجزر والكرنب إلى غير ذلك من الرياحين العبقة والمشمومات العطرة...»( ص15).

 

هذه الرؤية الشاملة لسوق عكاظ ومشاهد تفاصيله الدقيقة هي التي أسست لشاعرية المكان وميزته وجعلت الشخوص ينسجمون معه، كما هي الحال مثلا بالنسبة لمالك المنتمي إلى أسرة آل عوف النصريين، سدنة صنم جهار، إله هوازن الشامخ معبده في عكاظ، فجعلت من المكان عامل سرد ديناميكي يشارك في بناء الحكي.

 

إن الانسجام بين أماكن محددة وشخصيات تاريخية هو الذي أعطى للتاريخ صدقيته ومكن من انبعاث المجتمع الجاهلي في مختلف جوانب حياته. وشكل فضاء الشعر، ما بين عكاظ ومكة، معالم مشهد مسرحي متحرك décor، تحكَّم في مناحي الحكي والشخوص.

 

5-الأسلوب:

 

شكلت رواية حج الفجار حقلا معجميا كبيرا للحج وكل ما يتعلق به من طقوس ومواقع ومناسك وشعائر. كما قدمت صورة واضحة للبيئة الدينية والاجتماعية والعقلية التي نزل فيها الإسلام وما فشا في تلك البيئة من عبادة الأصنام وضرب القداح واستخدام الرقى والتمائم ومجالس الشراب واللهو. ومثل أيضا أسلوب الرواية نسيجا لغويا متينا مغرقا في معجميته، يناسب الحقبة التاريخية التي يتحدث عنها. هكذا ناسبت اللغة الحكاية وتنوعت بين السرد والوصف، وجمعت بين المتحرك والثابت واشتملت على قدر كبير من الشعر والأهزاج، وأفردت حيزا معقولا للحوار.

 

تتناص رواية حج الفجار في لغتها وخطابها مع آثار شعرية وسردية معروفة طبعت أسلوبها. فمما يشترط في التناص أن تكون النصوص المتحاورة ذات بنية رمزية متشابهة. هكذا قاربت الرواية العصر الجاهلي بلغة تحاكى لغة الجاهليين في وعورة مفرداتها ومصطلحاتها. ولم تنسحب هذه الخاصية فقط على النصوص المنسوبة إلى الجاهليين أنفسهم، بل تجاوزتها إلى لغة السرد في الرواية كلها التي ضجت بالمفردات والتراكيب التي قد تبدو صعبة، لكنها مفهومة من خلال السياق العام للسرد.

 

ثم إن الأسلوب النثري تناسب مع أسلوب النصوص الشعرية التي وردت في النص ولم ترد شروح لها كيلا تفقد الرواية عفويتها وتلقائيتها. كما تأثر أسلوب الرواية أيضا بلغة المأثورات السردية العربية وتناص مع آثار سردية معروفة. لكن تناص الرواية مع المعلقة الجاهلية هو الذي أسس لشاعريتها، وذلك لأن النص المحاوَر هو في النهاية الشعر نفسه. فلم تعد بين الشعر والنثر حدود فاصلة تماما، كما لا نستطيع أن نميز بين إيقاعاتهما، وذلك لأن النثر قد صمم بطريقة الشعر نفسها ومن المادة اللغوية الخام نفسها.

 

لكن، مع التقدم في قراءة الرواية، وبرغم التناص المشع مع الآثار التراثية القديمة، نجدنا نولي اهتماما أقل لهذه النصوص المكررة وتبعدنا إعادة الكتابة عن الموروث التراثي لتقربنا من الكتابة الروائية.