السفر في اللازمان

السفر في اللازمان

موسى ولد أبنو

 

 

دأب الباحثون من معهد آثار الفكر الإنساني على نبش القبور تنقيبا عن شواهد مطمورة من الحضارات السابقة. وفي هذه السنة، كانت الحفريات تجرى في الغلاّويه، بشمال المنكب البرزخي. استخرجت حتى الأن سبع عشرة جثة من عمق يتراوح بين سبعين، وثمانمائة سنتمتر. كانت كل الجثث في حالة سيئة، عظامها نخرة تتفتت وتنسحق عندما تهب الرياح وحين تلامسها الفرشاة.

 

لم يتبق لهذه الحملة سوى جثة واحدة على قمة الجبل. حفروا خمسة أمتار لكي يصلوا إلى القبر. تلقف أفضل الباحثين الجثة بتلهف، تدفعهم رغبتهم الجامحة في استكناه فكر هذا الكائن المنبعث من الماضي. إنه هنا مسجى في عزلة، مثله مثل تل صقلته عوامل التعرية، جمجمته مطوقة بتاج من الرمل البلّوري ذي اللون النضاري الفاتح. كشف فحص الجمجمة آثار مادة الميلين على هيئة بلورات صلبة. تحتوي بلورات الميلين على نسخ جزئية تحدد سرعة وسعة وتردد الموجات اللاستقطابية المميزة لنشاط الخلايا العصبية، وتعبر عن زخم المشاعر المختلجة في النفس عند سكرة الموت... في مخبر المعهد، وضعت البلورات في محلول عالي التركيز من حامض الديزوكسي ريبوزي ثنائي التحلزن، ثم أخضعت للتحليل الفيزيائي-الكيميائي من أجل قراءة نسخها الجزئية. لقنت النسخ للحاسوب لفك أبجديتها وتحديد معانيها. في اللحظة الموالية بدأ النص يظهر على الشاشة:

 

...ب73س7886د8س54أب1902277بد01د19ءف78بءنمس.مدينةالرياح/010/غلاوية/ڨارا.نج.ف123456789101112131415161718... أنا في عالم جديد... تهاجمني ذكريات تافهة، غريبة، من الحياة التي تغادرني... وجاءت سكرة الموت بالحق... لم أعد في غفلة من شيء... بصري اليوم حديد... أضاءت سكرة الموت تلافيف حياتي التي ظهرت بصور مكبرة آلاف المرات، والزوايا المظلمة كأنما صوبت عليها آلاف الشموس الصحراوية الموتورة. انزاحت الحواجز بين الظاهر والباطن، البادي والخفي، المعلوم والمجهول، ذابت الصفات المميزة في صفة واحدة في بؤرة الضوء!!... بُحيرة وعيي، التي ليس لها قاع، انفلقت في جميع الاتجاهات، كأنما ارتطمت بكوكب ساقط من علو ملايين السنين الضوئية. الوعي يتم من خارج منطقة الوعي. إنني من منطقة ما بعد الحياة، وما قبل الموت من منطقة التخوم، أستعيد شريط حياتي.. أسمعه وأراه، أدركه بالتفاصيل. ليس فيه قبل ولا بعد... أنا الذي أفنيت حياتي أحاول، بلا جدوى، أن أربط حياتي بأحلامي وشعوري بلا شعوري، ووعيي بوعي الآخرين، لأصدر حكما على الأخرين وعلى ذاتي وعلى الزمن، وارتدت محاولاتي يائسة مخذولة!! ها أنذا أشاهد ما عجزت عنه طوال حياتي يتحقق من تلقاء نفسه ساعة موتي!! الآن، وبعدما خرجت من الميدان، أرى نتيجة المعركة الحاسمة بين حياتي وأحلامي، مجسدة أمامي بدقة متناهية، كل شيء فيها يأخذ حجمه الصحيح، قبل أن تلتهمها بالوعة العدم. أرى العالم كله من عدسة ناظور، كله الآن بديهيات، لم تعد ثمة ألغاز ولا أسرار، كله على مستوى واحد من الوضوح. الزمن اختزل نفسه في بعد واحد، لم يعد ثمة ماض ولا مستقبل، أصبح حاضرا فحسب!! وشخصت البداية!!

 فتحت عيني.. امتلأتا بضوء الشمس الشديد.. أغمضتهما بسرعة.. جلست.. تلفت حولي.. كنت على قمة جبل أجرد، أمغر، تولول فيه الرياح.. لم أكن أعرف من أنا ولا ما الذي جاء بي إلى هنا.. لم أكن جوعان ولا عطشان.. لم أكن أعرف ماذا علي أن أفعل. أخذت أهبط منحدر هذا المرتفع الحجري الداكن، البنفسجي، الذي يحد الرمال المتجهة إلى الشمال، وإلى الجنوب، إلى مدى البصر.. بسرعة وجدتني في منطقة الكثبان المتحركة.. تهت فيها بلا هدف أصعد وأهبط بين الربى والوهاد اللينة الرمال، تتعاطاني جبال وأغوار هذا البحر الهائج الرجراج، دون أن أصادف أي أثر للحياة.

 

أخيرا عثرت على أول دليل على وجود حياة: نبتة مرخ هزيلة تتدافعها الرياح العاصفة، يتشبث بأحد أغصانها عنتر مقرف. تُرى، لماذا خرج هذا الذباب عن المألوف، بامتلاكه هذه العين الثالثة المرعبة؟  قرون استشعاره، الصهباء أصلا، اسودت واشتد لمعانها.. فقد كل مخالبه.. صدره، الأسود عادة، تحول لونه إلى الأخضر الحديدي. كان يطبق بأرجله على غصن ما يزال خضلا. حاول أن يطير بتحريك أجنحته الشفافة المتقزحة، ذات العروق المصفرة، لكن رأسه الناتئ عاق المحاولة وحولها إلى عبث يدعو إلى السخرية. ازدادت الصُّفيْحات الأمامية الداخلة لعيونه الثلاث تمددا بسبب مجهود محاولة الطيران. كانت الرياح تعبث بالنبتة الجاثمة على حزمة هشة من الجذور، التي ما تزال متشبثة بتلك التربة المتحركة. كل رياح عابرة تكاد تستأصل النبتة وترمي بالعنتر في بحر الرمال البيضاء المذهبة، فتكفيه تجشم مشقة محاولة الطيران الذاتي. إلا أن حزمة الجذور ما تزال متمنعة فوق مجثمها، القالب الرملي الملتف تحت جذوع متيبسة لم تعد سوى خيوط ليفية هزيلة. تسارع تمايل النبتة، مؤديا إلى تقوس بعض الجذور وشد بعضها الآخر... عصفت الرياح بقوة فتكسرت الأقواس السفلية وسقطت النبتة بعنف على الأرض. صُدم العنتر، لكنه ظل ممتطيا غصنه. لم يعد يربط النبتة بالأرض سوى عروق علوية وجذر طويل، يخيل إليك أنه حبل مرسى سفينة.. العنتر، الذي أضحى عاجزا عن الطيران، أعاد لف أجنحته وألصق بطنه الأخضر اللامع فوق هذا المرسى.. ظلت الرياح تتلاعب بنبتة الوزال، راسمة خطوطا على الرمل، حتى اللحظة التي انقطع المرسى بعنف وحملتها هي والعنتر زوبعة هوجاء..

 

رفعت بصري أتابع النبتة التي اقتلعتها الرياح، وراحت تدحرجها بين جنبات الكثبان المتحركة... رأيت سدا حديديا نابتا في أسفل كثيب كبير أحمر ساكن، يمتد بسعة الأفق، يقفله كسد ذي القرنين. بدأ من أسفل قاعدة الكثيب وارتفع معه صعودا حتى تجاوزه.. كان السد مكسوا بأطباق حديدية، تبدو تهديدات مصوبة ضد كل من يجرؤ على الاقتراب: جمجمة عظمية لإنسان باللون الأسود في إطار أبيض، تحتها عظمان متقاطعان؛ ألسنة نارية حمراء فوق دائرة سوداء على خلفية صفراء؛ ألسنة لهبية سوداء، تحتها سبعة خطوط حمر عراض، على خلفية بيضاء؛ ثلاثة أهلة وسط دائرة تحتها كتابة سوداء على خلفية بيضاء؛ نفل أسود معه كتابة خلفها خط عريض أحمر عمودي، على خلفية بيضاء؛ نفل أسود على خلفية صفراء معه كلمة يتبعها خطان أحمران عريضان على خلفية بيضاء، تتبعهما كتابة؛ نفل أسود على خلفية صفراء معه كتابة تحتها ثلاثة خطوط حمر عراض عمودية تتبعها كتابة على خلفية بيضاء... أطباق كثيرة من هذا النوع كانت ترصع السد الحديدي على مدى البصر ..على ظهر الكثيب الذي يسيجه السد، كان ثمة كائن غريب يروح ويجيء في دورية لا تتوقف، تلمع من تحت خوذته نظارات عريضة تؤلف جزءا من قناع واق ويحمل بندقية بين يديه المقفزتين.. كانت تظهر معه كائنات مشابهة له، تفصل بينها مسافات متساوية على اليمين والشمال، على مدى البصر.. كانت هياكل عظمية بشرية تُرى متناثرة على منحدر الكثيب من وراء السياج... أحسست بشيء لا أدري ما هو اصطدم بجبهتي، أحسست فورا بتأثيره السريع على دماغي وسقطت على وجهي في الرمل...

 

عندما استيقظت، وجدتني وحيدا في غرفة مقفلة، موثقا بعناية إلى مقعد.. يبدو أنني على مرتفع: كنت أرى سلسلة من الربى الرملية في منحدر، ومن ورائها يلوح سهل منبسط. اتضح لي بعد طول نظر أن ثمة أبنية في المنحدر كأنما نحتت في مكانها نحتا، لها نفس لون الأرض. في ذلك السهل، تلوح خطوط سوداء عريضة متقاطعة، تدب عليها كائنات، كما يتتابع النمل في أسرابه، تظهر على جنباتها كتابات بأنوار بيضاء، حمراء، صفراء... دخل غرفتي رجلان بزي غريب.. كانا يهذران بنبرة تهديد ووعيد، في رطانة لم أفهمها.. ضرباني بعنف وقسوة، إلى أن سقط المقعد الذي سمروني عليه.. أرغماني على ابتلاع حبتين كبيرتين لهما طعم الملح، حَرَنتا في بلعومي، قبل أن يتسع لهما المريء وتهبطا في معدتي. غادراني وأنا مغشي علي، صريعا...

 

كان الظلام قد هبط عندما أفقت من غيبوبتي.. رأيت قوافل النمل السائرة، وقد تحولت عيونها إلى مصابيح وقّادة، لها أضواء طويلة كالمذنبات.. فكرت أن ثعلب الرمال لابد أنه يجوس الآن خلف السياج، يحاول اجتيازه ويفكر في اختطاف شيء.. كنت أتساءل إن كان سيجد ما يسرقه هنا.. تصورته ـ هو الذي اعتاد أن يلعب ويتلهى بالسرقة والاختطاف ـ وهو يرى أسراب هذا النمل العملاق ذي العيون النارية، سوف لن تكون لديه بحال القدرة على التفكير في السرقة أو الاختطاف.. سوف يفكر فقط في النجاة بحياته.. رأيته فيما يرى النائم، وقد تمكن من اجتياز السياج، إلا أنه خرج خائبا، ليس في حوزته أي صيد.. قال لي إنه أضاع هويته الثعلبية وصار يتخيل أنه يربوع في مسلاخ غراب، وأن شعورا ينتابه بأن ذَنَبه يركض أمامه... كنت أنا هابطا من قمة جبلي.

 

أخذوني مع الفجر.. البنايات ذات اللون الأمغر، كانت رابضة على كتف المنحدر بين الحجارة الضخام؛ ما زالت في حماية الأضواء الصفراء الكاشفة.. في ساحة وسط بين البنايات، نُصبت صورة ضخمة، مرفوعة على قائمتين، لوجه أسود تنطق ملامحه بالقسوة.. عيناه غائرتان تحت حاجبين ناتئين، تشعان ضوء كضوء أسنان اليورانيوم الاصطناعية.. الأنف الأفطس، المفلطح، المفركح، الأبتر، الواسع المنخرين، كان يمنع الشفتين الغليظتين المحمرتين أن تتماس، مجمدا الوجه في ابتسامة عفريتية أبدية.. تحت الصورة كتبت أسطر لم أتمكن من التمعن فيها.. وضعوني في غرفة جديدة مرصعة بمرايا داكنة سميكة تتكلم وتعرض الصور، تضيء أحيانا وتعتم أحيانا.. مكثت فيها لا أدري كم من الزمن.. أياما أسابيع، أشهرا؟ كنت قد أضعت الزمن، ليس عندي ساعة ولا وجبات منتظمة ولا زيارات.. ليس عندي لا شمس ولا قمر، لا نهار ولا ليل..

 

في الحلم رأيت مرة تلك الصورة العفريتية «حفيدي!! كنت دائما أعرف أحفادي عندما ألقاهم، أعرفهم من نظراتهم.. في الأمة الماضية لقيتهم كبارا وصغارا، في وضعيات مختلفة: مدنيين وعسكريين، أغنياء وفقراء، أسيادا وعبيدا، خيرين وشريرين، وسيمين وقبيحين، بيضا وسودا.. لكنهم جميعا كانت في عيونهم تلك النظرة التي لا تكذب، وتسمح لي بأن أميزهم من الآخرين.. كنت عندما أتعرف على أحدهم أعقد العزم على أن أتصل به عندما أستيقظ، واحذره! لكني عندما أستيقظ أكون قد نسيت كل شيء وانكسف وعيي باللازمان وحلت القطيعة بيني وبين أحلامي، بيني وبين ماضيّ.. حتى الوعي بهذه القطيعة بين نومي ويقظتي، ما هو إلا حلم، شبح يزورني في المنام... »..

 

عندما أخرجوني من المحبس الثاني، كنت أعرف الكثير عن تلك اللغة الملعونة، التي كدت أجن بسببها.. مرت الشاحنة التي تحملني أمام صورة الميدان؛ تمكنت هذه المرة من قراءة السطور تحتها: "فخامة تَنْڨَلَّ وَلْ مَعْطَڸَّ، رئيس جمهورية المنكب البرزخي الديمقراطية".. وتحت ذلك بحروف حمراء "عملات صعبة بأي ثمن!". حبسوني هذه المرة مع سجين آخر.. كانوا يشرحون لنا، ببرامج فيديو، طبيعة المعسكر الذي نحن فيه وأنظمة تسييره.. سألت زميلي لماذا يشحنوننا بهذا السيل من الصور والكلام الفارغ؟ أجابني بأننا سندمج في فرق العمل، وننهي أعمارنا في المخازن! كان الجلد بسياط الفيديو سرمديا.. نفس البرامج تنتهي وتبدأ، ونفس الشريط الصوتي ينتهي ويبدأ من جديد.. "... إِيمْدَلْ، أحد مراكز تخزين النفايات السامة والمواد الخطيرة في جمهورية المنكب البرزخي الديمقراطية.. هذه المراكز كلها مقامة في المجابات الكبرى.. هذه الأرض الشاسعة عالم من الرمال يتشكل في مناظر طبيعية مختلفة: روابي رملية متشابكة متداخلة، وعثاء؛ وهاد لينة بين الهضاب؛ سهول ووديان؛ قيعان واسعة، لابسة ملاحف ناعمة من دقاق الحصى، تلامس أطرافها السماء على مدى البصر في الأفق، عند الأوقات القصوى.. هذه المنطقة من أكثر مناطق العالم جفافا.. جمالها سحري، ولكن ليس فيها مجال للحياة.. تسجل فيها درجات حرارة قياسية والرياح المحملة بالرمال دائمة على مدار السنة، وأشهر أنواعها إِرِيفِ التي تهب من الشمال الشرقي.. هذه المنطقة لا يصمد فيها إلا نباتات قليلة وحيوانات أقل استطاعت أن تتأقلم مع هذا المحيط القاسي منذ آلاف السنين.. حيوان المها هو الأكثر تأقلما.. هنا استطاع انْمَادِ أن يؤسسوا حضارة قائمة على صيد المها والغزلان.. لقد استطعنا أن نستفيد من هذه المساحة الشاسعة التي لم تكن مستغلة من قبل، وذلك بفضل حكمة رئيسنا المحبب فخامة تَنْڨَلَّ وَلْ مَعْطَڸَّ الذي بنى فيها مراكز لتخزين النفايات السامة والمواد الخطيرة، أصبحت تشكل بالنسبة لبلدنا مصدر دخل مهم من العملات الصعبة..

 

»" إن بناء وتشغيل هذه المراكز يحترم بصرامة قواعد الأمن العالمية. فالمخازن صلدة ونوافذها من قضبان الحديد.. الجدران الخارجية مغلفة بالفولاذ وجدران القواطع الداخلية مصممة بحيث تمنع انتشار الحريق ويزيد ارتفاعها عن السقف بمتر، وهي معززة بدعامات ومستقلة عن المنشأة المرتبطة بها، من أجل تجنب الانهيار في حالة حريق.. والتمديدات وأسلاك الكهرباء التي تجتازها موضوعة في أصداف رملية للتخفيف من خطر الاحتراق. الأبواب القاطعة للنار تنغلق أوتوماتيكيا في حالة الحريق، بفضل فواصل قابلة للذوبان، ينشطها اللهب؛ الأسلاك المتصلة بهذه الفواصل تمر عبر حلقة الوزن المعاكس والسكة المائلة تؤمن القفل الأوتوماتيكي للأبواب التي تضم مخارج احتياطية ذات مقاومة معادلة للحريق. العلامات التوجيهية، الحمراء على خلفية بيضاء، والبيضاء، والصفراء والحمراء على خلفية زرقاء، والبيضاء على خلفية زرقاء، والسوداء على خلفية بيضاء، تؤكد منع الدخين، وتحدد أمكنة تجهيزات الاحتياط وكذلك أمكنة الهواتف والمخارج الاحتياطية. قواعد السلامة محررة كلها باللغة العالمية. مخارج الاحتياط معلمة بوضوح ومهيأة طبقا لقواعد السلامة الأساسية لتؤمن الخروج السهل في حالة الطوارئ، وهي مصممة ليمكن فتحها بسهولة في الظلام أو في الدخان الكثيف ومجهزة بقضبان للفتح وتمكن من الخروج من المخزن في ثلاثة اتجاهات؛ مداخلها منورة بخطوط وإشارات سوداء على خلفية صفراء ومحمية بأعمدة ملونة بنفس الألوان لتمنع إعاقتها.. البلاطات لا تسمح بنفاذ السوائل، وهي ملساء دون أن تكون مزحلقة وليست بها تشققات، مما يسهل تنظيفها؛ وهي محاطة بعتبات مرتفعة للإحاطة بأي تسرب للمياه الملوثة، عند مكافحة الحرائق. المستويات المائلة، والتي لا يتعدى ميلانها واحدا على خمسين، مبنية دون المداخل الخارجية وحافة المستوى المائل توجد خارج المخزن؛ هناك جدران صغيرة إضافية عند كل جانب من جوانب المستوى المائل لضمان حصر تام للسوائل. وفي السقف توجد ألواح للتهوية تمثل فتحاتها ثلاثة بالمائة من مساحة الأرضية تفتح أوتوماتيكيا في حالة الحريق من أجل صرف الدخان والحرارة، تمكن من تمييز بؤرة الحريق وتأخير تقدمه الجانبي. النفايات والمواد الخطيرة المخزنة في الآبار، في الهواء الطلق، مختارة بعناية بسبب تعرضها لدرجات حرارة عالية قد تسبب انعكاسات حرارية.. ولتجنب تلوث المياه الجوفية، تكون أرضية مساحة التخزين مغطاة بطبقة عديمة النفاذية مقاومة للحرارة.. الحاويات مثبتة ومخزنة عموديا على منصات رافعة..

 

»"عندما تصل المواد إلى المركز، تكون معرفة عن طريق بوليصة الشحن.. يسلم المورد كشوف معطيات الأمان، ويتم التأكد من حالة المواد اعتمادا على المعلومات المستقبلة.. يقدم الناقل وثيقة النقل لكل بضاعة، حيث يكون مكتوبا فيها اسم مؤسسة النقل، عنوانها، رقم هاتفها، اسم المادة المنقولة، الأخطار الرئيسية والاحتياطات اللازم اتخاذها، والإجراءات اللازمة في حالة حادث تسرب.. يتم الإيداع وفقا لمخطط التخزين ويحدد وفقا لطبيعة المواد المخزنة، حيث يترك دائما فراغ بين الجدران الخارجية والبضائع القريبة منها، وبين الرزم من أجل تأمين التهوية وكذلك لترك مداخل حرة للتفتيش ولرجال الإطفاء.. وبوسع عربات الرفع أو أي آليات للشحن أو السيارات الاحتياطية التنقل بحرية.. الأجنحة والزوايا عريضة للتخفيف من خطر إتلاف البضائع المخزنة.. الأجنحة والممرات والطرق المعدة للعربات الرافعة محددة بعلامات أرضية ومحرمة على المشاة، من أجل تجنب أي انسداد أو حادث جسماني.. يتوقف ارتفاع الرزم دائما عند ثلاثة أمتار.. الرسم التخطيطي على مداخل جميع المخازن، يبرز الأخطار التي يشتمل عليها كل جناح، ويبين أقسام الجناح، ومكان وكمية وأصناف المواد المخزنة، وأنواع الأخطار التي تنطوي عليها.. ومكان أدوات النجدة، ومكافحة الحريق، والطرق الموصلة إلى المنافذ.. لاحظوا التعليمات المكتوبة بخط بارز تحت الرسم التخطيطي، والتي تمنع منعا باتا على العمال الأكل والشرب والتدخين في مناطق العمل.. الآن ترون منطقة اظْهَرْ الحجرية التي تمتد عدة كيلومترات؛ هذه هي منطقة تخزين المواد النووية المشعة.. هنا حفرت آبار عميقة لدفن الواد النووية المزججة.. تلاحظون أن الجبل تفلق في بعض الأماكن تحت تأثير المواد المشعة المدفونة فيه؛ لكن التشققات يجري طمها يوميا.. عندما يغادر العمال منطقة التخزين، لابد أن يمروا بغرف التطهير، قبل أن يأخذوا السكة الهوائية إلى مساكنهم؛ في هذه الغرف يتركون لوازم الوقاية الشخصية وثياب العمل، ليأخذوها بعد تطهيرها عند استئناف العمل من جديد..." »..

 ـ نعم؟

ـ ما اسمك؟  سألني المسجون الآخر.

العمال الذين كانوا يخرجون من غرف التطهير لأخذ السكة الهوائية كانوا يختلفون تماما عن الكائنات الغريبة التي دخلتها! الأقنعة الواقية والقفازات والأحذية العالية سقطت.. وبزات العمل الثقيلة البيضاء، حلت محلها دراريع خضر فضفاضة، مزينة بالكثير من التطريز.. الوجوه العارية تعبر عن جميع آلام البشر.. لونها، الذي بيضته الأقنعة، احتفظ ببقية من نحاسيته.. الكثير منها كان شاحبا ومتغضنا، كالأوجه التي تصادفها في أجنحة السرطان في المستشفيات.. النظرات تعكس الاستسلام للألم والموت...

»"...  أي إخلال بقواعد وتعليمات الأمان سيعاقب عليه بصرامة!" »..

كرر سؤاله ثانية.. أجبته بأني لا أعرف..

ـ لا أعرف اسمي... إذا كان لي اسم، فإني نسيته..

ـ هذا غير ممكن! أنت إنسان غريب! ومن أين أتيت؟

ـ لا أعرف ...

ـ أنت تهزأ بي؟

ـ لا، أبدا! أنا هذا الذي أكلمك، كامل الجسم، أكبر منك سنا، لا أعرف من أنا ولا من أين! كل ما أعرفه عن نفسي، هو أنني فتحت عيني يوما، والظاهر عندي أنها كانت المرة الأولى، ونظرت من حولي، ولاحظت أني كنت على قمة جبل.. لا أعرف من أنا ولا من أين.. نزلت إلى المنخفضات الرملية، وتهت فيها إلى أن عثرت على سياج المركز ...

كان برنامج الفيديو قد بدأ من جديد على إحدى الشاشات: "... النفايات السامة والمواد الخطيرة، في جمهورية المنكب البرزخى الديموقراطية..."..

ـ هل اقتنعت بما قلت لك؟

ـ لا! لن أقتنع بحكاية كهذه! لعلك مصاب بفقدان الذاكرة!

ـ وأنت من تكون؟.. لماذا حبسوك هنا؟

ـ أنا قادم من العاصمة، مدينة الرياح، حكموا علي بالأعمال الشاقة، أدانوني بتهمة مناصرة البيئيين وأني سربت معلومات إلى جبهة إنقاذ المجابات الكبرى.. الواقع أنهم أدانوني لأني من انْمَادِ ...

ـ انْمَادِ؟

ـ نعم، انْمَادِ، صيادو المها القدماء.. هؤلاء الذين يتكلم عنهم الفيديو. كنا أسياد المجابات الكبرى، نعيش بحرية في هذه المساحات السحرية القاسية.. كنا رفضنا التقنية وعالمها لكي نحمي أرضنا.. لكن، عندما وصل تَنْڨَلَّ إلى الحكم، وقع اتفاقية مع الأمم المتحدة صُنّفت بموجبها المجابات الكبرى منطقة دولية لتخزين النفايات السامة والمواد الخطيرة، ونفونا جميعا نحو المنطقة الساحلية.. حولوا أرضنا إلى مستودع للنفايات السامة! أنا نفسي مولود في مدينة الرياح، بعد حادثة النفي بزمن.. الكرة الأرضية كلها صارت الآن مصنفة كمستودع للنفايات على مستوى المجموعة الشمسية.. لم يعد يسكنها إلا منبوذو ومستضعفو النظام الشمسي من ضحايا التلوث والإشعاعات النووية.. أول فرصة أتيحت لهم، يبعثوننا للعمل الإجباري في المراكز الدولية لتخزين النفايات السامة والمواد الخطيرة التي تعتبر السنتان الحد الأقصى لأعمار العاملين فيها ...

ـ هذا فظيع! نحن على وشك الموت إذن!

ـ من وقت لآخر، تفجر جبهة إنقاذ المجابات الكبرى قنبلة في أحد المراكز أو تقتل سائق شاحنة معزولة؛ لكن ذلك عديم الجدوى: تَنْڨَلَّ يدشن مركزا جديدا كل ثلاثة أشهر...

 

في تلك الليلة نمت نوما قلقا، وعندما حان وقت الحلم استرجعت ذاكرتي ووعيي باللازمان.. رحت أبكي وأصرخ بكل قواي، مناديا ملك الزمن: «"الخضير! الخضير! في أية كارثة أوقعتني!؟ أخرجني من هنا، أنت تعرف تماما أني مسافر في اللازمان أبحث عن بشرية أفضل، وتعرف أن هذه الأمة هي شر الأمم.. لا تتخل عني هنا!" بعد كثير من الإلحاح والتشفع، استجاب وظهر لي، في نفس الملامح الغامضة، خلف هالته الخضراء. "ڨَارا هل نسيت ميثاقنا؟"، "لا، لم أنس شيئا!"؛ "إذن لابد أنك تذكر أني سمحت لك بالسفر في المستقبل لاستبدال أمتك..."، "نعم، لكن كنت أتصور أن المستقبل سيكون أفضل من ماضيه..."، "لهذا اخترت استكشاف المستقبل.. وأنا سمحت لك باستكشاف فترتين إن شئت.. قلت إنك راغب في مغادرة فترة أَوْدَاڤُوسْتْ، واستخدمت الفرصة مرة أولى، فوجدت نفسك تسعة قرون بعد الفترة التي هربت منها.. وبما أن الرجوع للماضي مستحيل كان بإمكانك إما أن تستقر في الفترة التي جئتها، وإما أن تسافر في فرصة ثانية وأخيرة نحو المستقبل، مع الاحتمال أن تجد نفسك بين أمة شر من تلك التي فررت منها، ويكون مستحيلا عليك أن تغادرها.. أليس هذا هو الميثاق؟ رغم هذا غادرت فترة كُوبُولاَنِ ووجدت نفسك في فترة تَنْڨَلَّ، وها أنت تلح علي أن أمنحك فرصة أخرى!! أذكرك الميثاق، وأؤكد لك أن السفر في اللازمان انتهى، وأنك باق هنا إلى أن تموت!".. "أنقذني! لابد من مغادرة هذه الأمة اللعينة! لم أر الشر من مسافة أقرب من هذه!"؛ "لم يبق لديك ملاذ! أي إنسان قبلك وجد فرصة لأن يعايش ثلاث أمم مختلفة ومتباعدة في الزمن؟ أنت لم تلق إلا ما تستحقه بسبب ظلمك وجهالتك! لا يمكنك الهروب دئما من القدر.. لم يبق عندك مفر.. أنت مرغم على أن تعيش في أمتك.. على كل حال، هذا الذي تشاهده هو الوجه الأخير للأرض.. لو واصلت السير في المستقبل، فإنك ستجد الأرض وقد أصبحت كومة رماد، والشمس وقد انطفأت!" وتوارى تدريجيا مع هالته الخضراء.. "لا ! انتظر! انتظر! الخضير! الخضير!..." »..

استيقظت.. كنت أرتعد رعدة شديدة وكان رأسي ثقيلا كأنه كرة من الرصاص، على وشك أن ينفجر من شدة الألم.. وكان انْمَادِ يمسكني من يدي..

ـ ماذا بك؟ من يكون هذا الذي كنت تناديه؟

كان لساني منعقدا، وحلقومي جافا ملتصقا..

ـ أعطني أشرب!

لما شربت أعاد علي السؤال:

ـ من ذا الذي كنت تناديه؟

ـ أنا! متى كنت أنادي أحدا؟

ـ الآن، عندما استيقظت كنت تصرخ "الخضير! الخضير!"

 ـ هذا غريب... لا أذكر شيئا!

ـ أنت مخيف! من الحكمة الحذر منك!

 

من الغد، جاءنا المشرف على العمال مبكرا.. كان مسلحا، هددنا كثيرا وقال قبل أن يسير بنا:

ـ أنا ذاهب بكما إلى غرف التطهير.. أريد أن أجهزكما للعمل.. أصبحتما ضمن فرقة المناوبة النهارية.. ستنضمان لفرقة مراقبة الآبار. هيا أسرعا!!

كنا أول من وصل إلى غرف التطهير.. أشار المشرف إلى دواليب قال إنها لخزن ثيابنا وأمرنا أن نغتسل في حمام بارد، نتن.. أحسست بجسدي كأنما الماء يخزه وخزا شديدا.. ألبسنا ثياب العمل: بزتان بيضاوان ملساوان.. احتذينا نعالا تصل مداخلها إلى الركب ولبسنا الأقنعة الواقية والقفازات.. انتظرنا حضور بقية فرقتنا ونحن جالسين على مقاعد حديدية، منحنيين، مطأطئا الرأسين.. توافد العمال.. كانوا صامتين، يمشون كأنهم مجموعة من المنومين مغناطيسيا.. كان باديا عليهم أنهم يعانون آلاما فظيعة، لكنهم ساكتون.. خلعوا أثوابهم وأودعوها في دواليب الحديد، وانتظموا طابورا أمام باب الحمام النتن.. فعلوا جميعا كما فعلنا.. ثم أعطوا لكل واحد منا حبتين وأمرونا بابتلاعها.. شعرت بغصة وأنا أبتلعهما..

 

كانت الشمس قد تربعت على قمة الجبل، عندما نزلنا من السكة الهوائية، عند منطقة الآبار.. كنا أربعة إذا حُسب معنا المشرف؛ تفقدنا المنطقة، نلاحظ التصدعات الحاصلة فيها منذ البارحة! وجدنا عدة تشققات، بعضها يشبه الأخاديد العميقة..

ـ هذه هي الطريقة التي ستنظم العمل: أنتما ـ وأشار إلي وإلى انْمَادِ ـ ستجمعان قطع الصخور الكبيرة من أعلى المرتفع، قلت الصخور الكبيرة وليس الصغيرة! تضعونها في الطحانة.. وأنت ـ مشيرا إلى الآخرـ تدير الطحانة وتذيب الحجارة وتوجه المنصة لسكب الحجارة المذابة في التشققات.. أسرعوا! هيا! إنني أراقبكم أيها الكسالى!

في آخر النهار، عندما كانت ظلال البزات متسلقة الجبل، عالية، كأنها أشباح عملاقة، سمعنا صفارة نهاية عمل اليوم.. في غرف التطهير، عندما خلعت لباس العمل، تحسست جسدي، لم أصدق أنه ما زال متجسما، ما زال صلبا لم يتحول إلى سائل. كان الحي السكني مقاما على أكناف الجبل، يعلو ويهبط متتبعا تضاريسها.. يتكون من سقائف مصنوعة مسبقا، لا يمكن الوصول إليها إلا بالسكة الهوائية.. دلوني على مكاني في المنامة الجماعية.. كان متكأ يشبه متكآت المعسكرات، بجانبه دولاب من حديد من نوع ما رأيته في غرف التطهير.. ارتميت فوق السرير وبقيت لمدة فاقدا الوعي.. فزعت من صفارة إنذار انطلقت فجأة.. خيل إلي أول الأمر أنها في داخل رأسي.. ثم رأيت الناس يتوجهون إلى بوابة الخروج.. نهضت على إثرهم في ممر طويل، يؤدي إلى باب كان مفتوحا، يتألف من درفتين كبيرتين على الجانبين في موازاة الحائط، تحكمهما من أعلى وأسفل سكتان حديديتان.. كانت فوق الباب كتابة بحروف مضيئة تحدد وظيفة المكان وعلى اليمين أمام الباب، لوح أسود كتب عليه بالطبشور الأصفر: "وجبة الأحد 20 ديسمبر 2045، حساء البوتاسيوم، بيف استيك، فطريات مغلية، تمر آغْرَيْجِيتْ"، أخذت مكاني على مقعد حديدي بين الآخرين... كان الخدم يطوفون.. مر اثنان قرب طاولتنا، أحدهما يجر تابوتا ضخما فوقه مراجل فائرة يتصاعد منها البخار، وآخر يغرف الحساء من المراجل الفائرة ويصبه في الأقداح.. بدأ أحد جلسائي يصيح كالمجنون، أخذ القدح الملآن بالحساء الساخن وصبه على وجه الرجل الذي يسحب المطبخ النقال.. تواثب عليه رجال الأمن، وأشبعوه لطما ولكما دون أن يهتم به أحد.. سحبوه إلى الخارج؛ كان صياحه ينتهي إلى آذاننا.. فتحوا الهُولُوفِزْيُونْ وكانت الجهارة على الأقصى.. بدأ الناس يشاهدونه ويأكلون، وهم ساهمون..

 

لما خرجنا من غرفة الطعام جاء رجال الأمن يبحثون عني وعن انْمَادِ.. اقتادونا إلى مكتب مدير المركز.. انتظرنا عند الباب نصف ساعة على مقاعد.. ليست لدينا فكرة عما استدعينا من أجله.. رجال الأمن خرجوا إلى الفناء يتحدثون، كأنهم نسونا تماما.. لكن كلبا بحجم الأسد كان منبطحا مسافة شبر من أقدامنا.. عيناه مصوبتان إلينا لا يلتفت أبدا.. يهر، ويكشر عن أنيابه لأي حركة تبدر من أحدنا.. دخل أحد رجال الأمن استجابة لرنين جرس على مدخل قاعة الانتظار.. أدخلنا على مدير المركز.. كان قصير القامة بدينا كالخنزير المسمن، يلبس سروالا قصيرا وقميصا من الكاكي قصير الكمين.. كان يولينا ظهره، واقفا بين مكتبه وصفوف من الحواسيب.. رأسه حليق حديثا.. رقبته تعلوها ثنيات من الشحم، ضاعت فيها الحدود الأصلية للرأس.. أذناه على وشك أن تبتلعهما كثبان الشحم كليا.. كان رجل الأمن قد أغلق باب المكتب منذ برهة.. مازال يولينا ظهره كالأريكة، محدقا في شاشاته، يعبث بمفاتيحها.. أخيرا استدار في مواجهتنا، حدق فينا.. كان ينظر إلينا من فوق إطار نظارته.. عيناه الكستنائيتان مدفونتان، بلا حواجب وبلا حدقة.. وجهه لا ينطوي على أي معنى زائد على شاشات الحواسيب المحدقة فينا من ورائه.. جبهته ضيقة مغضنة، وشفتاه الرقيقتان منطبقتان تماما فوق ذقنه الأصلي الحليق الذي ابتلعه الذقن اللحمي الطارئ، فتحول إلى حبة طماطم.. كان وجهه منقطا ببقع حمراء وكانت عكن كرشه الضخم الأبيض، تتفلت من بين أزرار قميصه الممتلئ.. ركبتاه انمحت ملامحهما تحت شلالات اللحم المتدفقة من الفخذين وقدماه العاريتان محشورتان في شبكة نعاله لبلاستيكية. خطا باتجاه المقعد، فانهار فيه.. وأشار بيده:

ـ اجلسا!

ناولنا أوراقا للتعبئة..

 ـ إقرءا جيدا قبل أن توقعا.. هذه عقود العمل والإقامة.. أنتما مدانان، لكن دستورنا يضمن حقوقكما..

احتججت قائلا:

ـ مدانان، كيف؟ أنا بريء ولم يصدر بحقي أي حكم!

ـ أنت حالة خاصة! أنت مضبوط متلبسا بالجرم المشهود!

ـ "متلبسا بالجرم المشهود"! أي جرم؟ ماذا فعلت لتحبسوني هنا؟

ـ كنت تجوس حول السياج...

ـ أقسم أني كنت هناك صدفة !

ـ لا يهمني ما تقول، لا أريد أن ترهقني بأقوالك.. أنت بالنسبة لي مدان كالآخرين.. في كل الأحوال، لا يمكن أن تحاكم إلا بعد معرفة هويتك ودوافعك.. التحقيق بشأنك مازال مستمرا.. أرسلنا مواصفاتك كاملة إلى البوليس الدولي، لأننا فشلنا في معرفة هويتك.. ستبقى سجينا هنا إلى أن يسفر التحقيق عن نتيجة!

كان انْمَادِ يتابع حوارنا ساكتا، يائسا.. كان قد وقع عقده دون أن يكلف نفسه قراءته.

ـ أنا لن أوقع أي شيء! قلتها بثقة مفتعلة.. أنا لم يصدر في حقي حكم، ولن أوقع بالتالي أي شيء!

رن جرس الباب الذي انفتح، ودخل منه رجال الأمن..

ـ أرجعوا انْمَادِ إلى المنامة، وخذوا هذا إلى غرفة الإكراه!

أخذوني من جناحي وأنا أقاوم؛ اقتادوني إلى غرفة خاوية، جدرانها مزروعة بعيون الزجاج.. لحظات، ووجدت نفسي في ظلام دامس.. ثم صوبت علي من كل الاتجاهات أشعة ملونة.. أحسست دماغي ينعصر فأمسكت رأسي بين يدي.. انطفأت الأشعة وأضيئت الغرفة بشكل طبيعي، أخرجوني وأعادوني إلى مدير المركز الذي مد يده بالعقد بلا مبالاة:

ـ وقع هنا! ووضع إصبعه على نهاية الصفحة الأخيرة من الشكلية.

وقعت في المكان الذي حدده..

ـ اذهبوا به الآن!

 

المنامة كانت خاوية وكان الضوء منطفئا..

ـ جميعهم ذهبوا.. سمعت صوتا يقول ذلك.. في مثل هذا الوقت يكونون في النادي..

التفت إلى مصدر الصوت.. رأيت نصف رجل.. قدماه منفرجتان.. نصفه الأعلى تطامن على نصفه الأسفل.. رأسه يلامس الأرضية وجناحاه المنضمتان إلى بعضهما خارجتان إلى الوراء من بين ركبتيه.. ثم نأى برأسه المتدلي حتى استقام قائما.. وجعل يهوي برأسه من الوراء إلى أسفل.. يهوي.. يهوي.. حتى لامست يداه الأرضية.. أصبح قوسا.. بطنه إلى السماء. سألته ماذا يصنع؟

ـ رياضتي اليومية.. ساعة قبل النوم.. أكمل بها ساعة الركض الصباحية.. هذه أفضل طريقة لصحة وتوازن الجسم!

ـ الصحة!؟ توازن الجسم !؟ هنا !؟

أخذ في شروح طويلة، لم تكن لي القدرة على متابعتها من شدة ألم رأسي.. استلقيت في مضجعي وأنا أسمعه مازال يهذر:

ـ ... فاهم؟ مادامت الحياة ... الخ.

 

خلال كل تلك الفترة كنت دائما أترجى الخضير في نومى، بدون جدوى.. اليوم، مع طلوع الشمس كنا في منطقة الآبار.. كانت المواد المشعة الدفينة قد أحدثت خلال الليل شقوقا جديدة في الجبل.. وكنا ندحرج الصخور الكبيرة لتغذية الطاحونة.. ألقيت نظرة على المنحدر، كانت ذوائب الكثبان تدخن غبارا كالبخار.. الرياح على وشك أن تنطلق.. الشاحنات في حركة من كل الاتجاهات، والبزات البيض ذهابا وإيابا بين المخازن والشحنات الرابضة أمامها.. في هذا الصباح كانت الحفارة في منطقتنا.. تحفر آبارا جديدة.. منعنا الخولي من دحرجة الحجارة التي كانت الحفارة تستخرجها.. وأوجب علينا جلب الصخور من قمة الجبل...

 

طلبني يوما مدير المركز وأعطاني مظروفا قائلا: "هذه أجرتك".. دون أن يعطيني شروحا أخرى.. في المساء استطعت أن أذهب إلى النادي لأول مرة.. كنت برفقة انْمَادِ وآخرين من العمال المجبرين.. أخذنا المصعد الذي نزل بنا سبعة طوابق تحت الأرض.. كنا متزاحمين وكنت أشم روائح كريهة، أسعل في محاولة لإبعاد احتمال الإغماء.. انفتح المصعد على بهو من المرايا.. انتهز بعض الوقحين الفرصة، وراح يتأمل هندامه ويسوي تسريحة شعره.. كانوا في الواقع يحدقون في شقائهم! لمحت رأسا غزاه الشيب، لعله رأسي! وانفتح باب الزجاج.. سرنا في الممر طابورا.. كان ثمة شباك، يوزع آليا بطاقات الدخول، كان الواحد منا يضع نقودا في حوصلة الماكينة فتخرج له التذكرة.. دخلنا فرادى.. كل واحد يدخل التذكرة في ثقب طولي في الباب فينفتح، ثم ينصفق خلف الداخل.. عندما دخلت، بقيت مترددا للحظات، لا أدري إلى أين أذهب.. الموسيقى الثقيلة، الصاخبة، الحادة، المتلاحقة، السريعة، عجلت عن الأذنين فاخترقتني، دخلت من جميع مسام جسدي.. الألحان الغليظة الفاحشة، كانت تجلد قلبي، الذي كان يدق كالجرس.. تحول الهواء إلى عجينة لزجة من أبخرة الكحول، ودخان السجائر وإفرازات الأجسام.. الأكسجين اندحر إلى خلفية بعيدة، أصبح ذكرى.. المصابيح المختلفة الألوان، تضفي وقتا ثالثا، غبشا ملونا يغري بالانفلات.. في ناحية قصية، كانت كوكبة من المصابيح الملونة تضيء وتنطفئ، تلمع على مربع منعزل، مكتظ بأجسام متراقصة.. على اليمين، كان هناك مشرب طويل تصطف زجاجاته على خوان نصف دائري، تتسلق محيطه الخارجي مقاعد كثيرة انتصب عليها ناس كقشاعم النسور.. أحسست بأحد يأخذ بيدي:

ـ أنت جديد هنا؟ ما زلت محتشما؟ تعال، هيا، يا ثعلبي الصحراوي، سأجد لك مكانا!

تتبعتها عفويا، دون أن أجد الوقت الكافي لتحديد ملامحها.. شعرها الأسود الطويل الكثيف المتماوج على كتفيها كان يمنعني من التركيز على صفيحة وجهها. أجلستني على كنبة واطئة خلف طاولة زجاجية.. قبل أن تتوجه صوب البار، همست في أذني بكلام لم أفهم منه شيئا، ضاع همسها في صخب الموسيقى الوحشية التي كانت تجلدني.. استطعت أن أمعن النظر في وجهها بعدما رجعت تحمل في يديها كأسين مليئتين.. جلست بكامل ثقلها في الكنبة المقابلة أمامي..

ـ سامحني! هكذا قالت.. لعل وزني زاد منذ وصلت إلى هنا!

ـ أنا لا أجرؤ على سؤالك عن اسمك، لأني لا أعرف لنفسي اسما...

ـ لا عليك، اسمي هنا سُولِيمَا!

المساحيق على وجهها كانت خفيفة.. شفتاها الناعمتان تشكلان سلاحا ماضيا من أسلحة إغواء إبليس، وفوق أنفها الأقنى عينان نجلاوان، تترقرق فيهما دمعة لا تهبط، تعبران عن حزن دفين؛ كأنهما شاطئان تحطمت عليهما مراكب الأمل.. انحنت إلى الأمام تتناول كأسها.. صار صدرها السخي يوشك أن يتدفق على الطاولة من الفتحة الصدرية لفستانها.. لحظت في معصمها الأيمن سوارا غريبا بداخله سهم يعوم في سائل زئبقي..  كنت منزعجا، شديد التوتر بسبب الموسيقى الجحيمية التي تبعث النكد، وتدفع إلى الإحساس بالقرف والغثيان: كتائب مسلحة بعتاد كثيف من الآلات الكهربائية والألكترونية، تتبارى في الصخب الذي يفجر طبلة الأذن، وينفذ إلى مواطن الإحساس كالمكاوي؛ سيل عرم من المفرقعات المحطمة للسكينة، العديمة التناسق والتناغم، يرافقها صراخ مسعور يكرر ذات النبحة في نشاز أبدي.. كلمات الأغنية في ضمير الأنا، تحكي عناد البشر في ضلالاتهم، موقعة على أوزان قصيرة مبتذلة...

ـ أكره الموسيقى هنا!

قالتها فجأة.. تعجبت من ملاحظتها.. «هل عندنا نفس الذوق؟ أو لعل ذلك نتي ...

ـ وأنت؟ يبدو أنك لست مرتاحا منها ...

»... جة الغريزة النسوية القديمة التي تجعل من المرأة عقلا فراغا تحت الزينة والثياب، نسخة طبق الأصل من الذكر الذي يدخل عالمها، مرآة بسيطة تعكس أحلامه ورغباته...»

ـ أنت لا تريد أن ترد علي؟ قالتها وأمسكت بيدي، تستعجلني.

ـ كنت منزعجا، شديد التوتر من هذه الموسيقى الجحيمية...

لاحظت أنها تشرب كلامي بنهم شديد، كأنها تجد فيه لذة ليس بعدها لذة.. كانت تلتقطه من فمي قبل أن يتشكل لُغَة، كالعطشان التائه، يجد وشلا من الماء فلا يفرط بقطرة منه! أحسست قشعريرة في ظهري، خيل إلي أن جلدي ينكشط من تلقاء نفسه لينخلع مني ويهرب...

ـ دعنا نخرج من هنا إذا أردت! يمكن أن نذهب إلى قاعة أخرى تكون أكثر هدوء، قاعة البِيَّارْ مثلا...

 

لم يكن الجو هادئا في هذه القاعة، كان رجل قصير، دميم، عظيم الهامة، يقف على الطاولة.. عيناه لامعتان كالمجذوب، لحيته الكثة تغطي كامل صدره.. يحشر هامته الحليقة في قلنسوة من القماش الأبيض.. كان يلوح بيديه في الهواء ويخاصم، والناس يتزاحمون حوله.. بعضهم يشد دراعته ويهدده، وآخرون يضحكون من أقواله ورذاذ ريقه المتطاير، وينكتون عليه نكتا جارحة.. قلة منهم يحالون تفهم كلامه، ولا يستطيعون بسبب الضوضاء من حوله.. صرخ أحدهم في الناس:

ـ أسكتوا عنه! دعوه يتكلم!

خف الضجيج.. صار من الممكن تمييز كلامه..

ـ ... دورات ظهور ودورات غياب.. الله سبحانه وتعالى رفع حجته من الأرض لما انتشر فيها الفساد والشر.. لكن يوم ظهور المهدي، إمام هذا الزمان، بات قريبا.. المهدي الذي سيقضي على الشر والطاغوت، ويجعل الأرض وطنا للخير وأهله...

ـ نحن لا نريد مهديك! صرخ أحدهم.. مضى علينا تحت وطأة الشر من الزمن ما يكفي لقطع أي أمل!

ـ في جميع الأحوال، وبالنسبة لنا، نحن لا يعنينا ما هو آت، لأنه ببساطة لن يدركنا...

ـ ومهديك هذا الذي تتحدث عنه من قال لك إنه سيأتي؟

ـ ومتى؟  متى؟؟

ـ أقسم لكم إنه سيأتي! رايته في المنام وكلمني.. نعم أقسم على ذلك! هو لا يظهر إلا لأنصاره.. قال لي: "هذه الأرض مضى عليها زمن طويل تحت سلطة الفساد والشر.. اليوم حان وقت إقامة العدل، وإحقاق الحق!"..

ـ كفى، كفى! سمعنا أكاذيبك! انزل عن الطاولة، دعنا نلعب!

ـ ومتى سيأتي مهديك، ألم يخبرك بذلك؟

ـ عندما تصبح الأرض رمادا وتنطفئ الشمس!! استفزه آخر.

ـ قل! قل! متى؟

ـ لا أدري... خمسون سنة... أو مائة، لا أدري...

عندئذ رنت في أجواء القاعة ضحكة استهزاء.. التفت الناس إلى مصدر الضحكة.. كانت فتاة منفردة واقفة تسند ظهرها على الحائط.

ـ نعم، أؤكد لكم! نحن في نهاية الدورة الثانية عشرة والأخيرة... الزمن الدائري يوشك أن يبدأ من جديد، فاتحته دورة ظهور الحق وبداية تلك الدورة ظهور المهدي...

قاطعهُ قدوم مدير المركز في معية مفرزة من رجال الأمن.

ـ أنت! انزل، أسرع! أنزلوه! أفسحوا أنتم الطريق!

ـ أنتم جنود الشر! أنتم المفسدون في الأرض!

كان أبو الهامة يصرخ وهم يحملونه، يتخبط بين أيديهم..

ـ تستطيع أن تفكر كما تشاء، وأن تقول ما تشاء.. قالها مدير المركز للمجذوب.. وأضاف: نحن ديمقراطيون! لكن يجب أن لا تقدم أبدا على ما يخل بالأمن العام وإلا سيكون لك العقاب بالمرصاد! اذهبوا به، ألقوه في قاعة الإكراه! دعوه يبيت ضيفا هناك!

وقال موجها كلامه للجمهور قبل أن يخرج:

ـ فكروا فيما شئتم! قولوا كل ما يحلو لكم! أكذبوا، أسرقوا، غشوا، لكن حذار مما يمس الأمن العام!

لما خرج، أرجعوا كرات البِيّارْ على الطاولة وأخذوا في اللعب وبدأت الأحاديث الخافتة.

ـ هل ترغب في شوط؟ قالتها سُولِيمَا متحمسة.

ـ لا، أنا لا أحسن هذه اللعبة!

ـ هيا بنا نجلس !

جلسنا إلى طاولة قرب الفتاة الضحوك المستهزئة.. كان عجبي يزداد من السوار الذي تتزين به سُولِيمَا في معصمها..

ـ هذا قلب جميل! قلتها ولمست القلب بيدي.

ـ هذا ليس قلبا! إنها بوصلتي، ترشدني إلى جهة النفوس الخيرة!

ـ وما علاقة بوصلتك بالخيّرين؟

قربت سوارها من وجهي:

ـ إنه سلاحنا للصيد! أنا من قبيلة صيادين يبحثون في المجرة عن الأرواح الخيرة! نحن نعيش بالكلام مع هذا النوع من الأرواح.. نعيش ونتغذى من هذا النوع من الأحاديث التي لها نفس قيمة الأوكسجين والشراب والأكل بالنسبة لكم.. نحن نشبه تلك الكائنات التائهة بالليل التي تسمونها "مصاصو الدماء".. إنما الدم الذي نحتاجه نحن هو الكلمات الخارجة من أفواه الخيرين.. منذ آلاف السنين وأنا مسافرة في ثقب أسود من نقطة إلى أخرى في برج التبانة... الأرواح الخيّرة قليلة...

ـ آلاف السنين؟  أنت لم تبلغي الثلاثين!

ـ أنا مثل هذه الصور من الماضي التي ترونها في سمائكم وتسمونها نجوما.. بعض تلك الصور أمضى مليارات السنين قبل أن تلتقطها أبصاركم.. بعضها بدأ رحلته قبل أن تخلق مجرتكم.. سأعطيك مثالا... أنظر إلى هذه الفتاة التي تبعد عنك ثلاثة أمتار.. أنا لا أراها كما هي الآن، إنما أراها كما كانت منذ جزء من مئة من ميكروثانية.. أنا ببساطة وزعت المسافة على السرعة، لكي أحدد الزمن.. أنتم بطبيعتكم لا تدركون فوارق بهذا الحجم، لكن تصور لو كانت العملية على مستوى كوني.. في الثقوب السوداء، السرعة تكبر إلى الحد الذي لا يعود ثمة زمن مهما كانت المسافة المقطوعة طويلة.. آخر روح خيرة لقيتها، منفي من فِيڤَا، في خلوته على الفُّوبُوصْ.. ولأني كنت أنوي المرور بالأرض في رحلة البحث عن النفوس الخيرة، مكثت زمنا في ليبيا، النقطة رقم 32 في خريطتكم للمريخ.. هناك مركز للدراسات الأرضية مكثت فيه ست سنوات مرّيخية، أي ما يزيد قليلا على اثنتي عشرة سنة من سنيكم، لأدرس حضارات ولغات الأرض وآخذ شكلا مشابها لشكل البشر.. أنا دائما أحضر نفسي قبل أن أدخل في صلة مع حضارة جديدة علي.. لا تستطيع أن تتصور المجهود الذي تطلبه ذلك مني، كنت كأنما خلقت من جديد... أنت أول رجل خير ظفرت به على هذا الكوكب!

ـ والرجل المجذوب ذو الهامة، ألا ترينه رجل خير؟

ـ لا أعرف... من يسمع كلامه يحكم له بالخيرية، لكن إبرة بوصلتي لم تشر إليه... الآن تكلم أنت! قل لي شيئا!

قصصت عليها كل ما أعلمه عن نفسي، منذ يوم فتحت عيني على رأس الجبل لأول مرة، حتى دخولي إلى النادي هذه الليلة.. بدا لي أنها تعرف عني أكثر مما أعرف عن نفسي.. طلبت منها أن تعيرني بوصلتها القُلب، وقلت لها إنني أحتاجها لترشدني إلى الخيرين القلائل، لأن حياة البشر التي تومض فوق الأرض لحظة وتنطفئ، أضاعت منذ زمن بعيد قدرتها الهادية إلى الصواب.. لكنها شرحت لي أن بوصلتها لها علاقة بطاقتها الذاتية وأنها لا تصلح للبشر.. أعلنوا إغلاق النادي.. قلت لها إنني أرغب في لقائها في مثل هذا الوقت من الغد، لكنها اعتذرت.. أخذت تقدم لي شروحات واعتذارات طويلة، مليئة بالحزن والخيبة..

ـ ... لقد عبرت كثيرا من صحاري المجرة بحثا عنك.. لكن لابد من السفر.. لا أستطيع أن أشرب مرتين من نفس العين.. تصور أنك مسافر في صحراء شاسعة، يحسب عليك الزمن؛ إذا صادفت عينا تتوقف لتشرب، وتستأنف السير.. لن تستطيع الإقامة عند عين واحدة، لأنها ستجف يوما.. أرواح أهل الأرض، شأنها شأن أضوات الصحراء، سريعة الزوال، سريعة الجفاف.. نعم لابد من المغادرة.. هذه الجلسة معك أشاختني مئات السنين الضوئية.. لا تتصور.. حتم علي أن أسافر إلى مكان آخر، حقبة أخرى بحثا عن ماء جديد، عن دم جديد، عن روح خيرة أخرى... لكن إذا كنت غير مرتاح هنا أستطيع مساعدتك على الخروج ...

ـ كيف؟

ـ سأعطيك إحدى بزاتي.. إذا لبستها لن يستطيعوا رؤيتك، يمكنك الخروج في أي وقت تشاء.. ثيابي العادية ليست هذه التي تراها الآن.. إنها بزات مزودة بأغطية للرأس، وقفازات مصنوعة من قماش خاص يصدر أشعة تحت حمراء.. عندما أكون في ثيابي العادية، وبسرعتي العادية التي تبلغ 299 ألف كيلومتر في الثانية، أظهر بلون ثيابي، لأن الأشعة تحت الحمراء الصادرة عنها تتوزع على موجة قصيرة.. لكن عندما لا أسير بسرعتي العادية، كأن أسير بسرعتكم مثلا، تصبح رؤيتي مستحيلة، لأن الأشعة تحت الحمراء صارت على موجة طويلة...

وافقت على أن أجرب بزتها دون أن أفهم شيئا من تلك الشروح المعقدة..

ـ ألقاك بعد ساعة في المنامة..

أجبتها بأنها مجنونة، وقلت لها إن رجال الأمن سيعتقلونها.

ـ لا تخف، سألبس بزتي!

خرجنا من النادي من بابين مختلفين..

 

لم نكد نأخذ مضاجعنا في المنامة، وتنطفئ الأضواء حتى أحسست يدا تلمسني وسمعت صوت سُولِيمَا في أذني.. خلعت بزتها واستلقت بجانبي.. وضعت فمها على فمي، وناشدتني أن أقول شيئا.. صارت أنفاسي تتقطع.. تمتمت في فيها كلمات مذهلة، هذيان لم أعتقد يوما أن لي طاقة عليه..

 

عند ما أخذ ضوء الصبح ينفذ من مصافي النوافذ، أقلعت بفمها عن فمي.. كنت مرهقا، مستنزف الطاقة، وقد أفرغت من قدرتي على الكلام. نهضت من جانبي وارتدت بزتها وقالت لي بصوت متغير:

ـ إلى اللقاء.. أرجو أن نلتقي في حقبة أخرى وأن أنهل من معينك مرة ثانية.. أحضرت لك البزة، إنها تحت السرير..

لم أرد عليها.. كان مستحيلا علي الكلام أو التفكير في أي شيء، نفد مخزوني من الكلام! كنت أحس في لساني ودماغي فراغا هائلا؛ كانا يابسين، مشققين، كأرضية الأضاة التي جفت!

 

في ذلك الصباح لم أنهض من السرير.. كانوا قد انتهوا من الفطور ويستعدون للذهاب للعمل.. جاءني انْمَادِ وسألني إن كنت مريضا.. ولما لم أجبه ذهب وأخبر المدير الذي أحضر طبيبا أفتى بأني لست مريضا، إنما أنا متعب.. وأمر لي بمنشطات وبيوم من الراحة.. عندما لم يبق في المنامة غيري، أخرجت البزة من تحت السرير وقفلت عليها الدولاب خوفا عليها من ابتلاع مصاصات التنظيف.. بقيت طيلة اليوم في السرير.. فاتحا عيني، لا أتحرك ولا أفكر.. وفي المساء لما رجع انْمَادِ من منطقة الآبار، أشقى من سيزيف، كنت ما زلت عاجزا عن الكلام.. ووجد هو في نفسه من الطاقة ما مكنه من الشفقة علي:

ـ مسكين! كان فاقد الذاكرة والآن فقد الكلام!

التزمت الصمت أسابيع، لكن ذلك لم يمنع الخولي من إرغامي على دحرجة الصخور إلى منطقة الآبار: ربما يكون سيزيف أبكم أفضل من سيزيف يتكلم...

 

لم أستطع مواصلة الحياة في المركز.. ومع بداية استعادتي للقدرة على الكلام، كما تتشقق الأرض عن طلائع الأعشاب، قررت أن أشرح لِنْمَادِي مشروع هروبي.. لم أكن أعرف إلى أين.. حدود العالم عندي هي حدود المركز.. قد يكون العالم كله مركزا ولا فائدة من الانتقال من جحيم إلى جحيم.. كنت بحاجة إلى نصائح انْمَادِ.. لكني كنت عاجزا عن الكلام، أو فارغا منه.. حاولت مرة أن أنطق لفظة "بزة" لكي أطلعه على معجزة الاختفاء فلم أستطع.. حاولت أن أجعله يلمس البزة، أن يدركها باللمس إذ لا يمكن رؤيتها:

ـ المس، أنظر! هنا، إنها بين يدي!

لكنه لم يكلف نفسه عناء مد يده نحوي.. كان ينظر إلي باستغراب، صار موقنا أن بي مسا من الجنون.. بعد أيام عدة من النقاش بالإشارات، تتخللها كلمات قليلة حائرة، وافق على أن يعطيني عنوان امرأة من قبيلته، اسمها فاله، تسكن في اطْوِيلْ، المحطة الثانية على الطريق السريع نحو الجنوب..

 

من الغد، بقيت في السرير أنتظر خلو المنامة.. بعد أن ذهبوا كلهم للفطور، فتحت الدولاب، انسكبت بسرعة في بزة سُولِيمَا. خطوت خطوات مترددة خارجا من المنامة، أكتم أنفاسي حتى لا يحس بي أحد.. لم أكن واثقا من حكاية الأشعة تحت الحمراء والموجات الطويلة القصيرة! كنت أمر بعيدا عن الموظفين ورجال الأمن.. كنت موقنا أن رجال الأمن سينتبهون إلي دفعة واحدة ويقبضون علي ..ركبت السكة الهوائية دون أن ينتبه إلى أحد.. نزلوا عند غرف التطهير، يلبسون ثياب العمل.. بقيت في القمرة.. كان قد بقي فيها رجل أمن خفير على الركاب.. كان ينكت منخريه بأصابعه العشر.. كنت أتوقع في كل لحظة أن يبطل السحر، ويلتفت إلي مهددا، موبخا، متوعدا: " أنت! لماذا بقيت؟ لماذا تأخرت عن العمال؟ انزل!".. لكنه ظل غير شاعر بوجودي!.. عاد العمال إلى القمرة، وقد اختفت أجسامهم كليا داخل بزاتهم المرئية.. أخذت السكة طريقها للهبوط.. عند محطة الآبار، لحظت ثلاثة ببزاتهم ينزلون.. لم أستطع أن أميز انْمَادِ من بينهم.. تابعت سيري مع السكة إلى منطقة المخازن.. نزلت ومشيت إلى أقرب شاحنة كانت تفرغ حمولتها.. كان السائق وخفيره يملآن ويوقعان أوراق الحمولة الواصلة.. دخلت من باب القمرة، الذي تركوه مفتوحا، واتكأت في مكان ضيق خلف المقاعد.. صعد السائق والخفير بعد إتمام الإجراءات وأخذت الشاحنة طريقها إلى بوابة الخروج..

ـ أنا أكره إِيمْدَلْ! قالها السائق.. العمال هنا معقدون!

أجابه الخفير:

ـ نعم، الناس هنا حمقى! أهل أَرَتَانْ أحب إلي من هؤلاء! هم على الأقل يملكون القدرة على الرقص فوق قبورهم!

عند نقطة الخروج، أخرج السائق بطاقة، ففتحوا له البوابة الحديدية العالية.. خرجنا من السد ووهبنا أنفسنا للخلاء.. لكني ـ في داخلي ـ كنت ما زلت أحدث نفسي بأنهم قد يكتشفونني خلف المقاعد ويغتالونني، وليس من شاهد يشهد.. لكن، كان لزاما علي أن أعترف بأن أشعة سُولِيمَا لم تخني حتى الآن.. مع ذلك بقيت على حذر.. قد تكون الشاحنة أخذت الاتجاه المعاكس لجهة اطْوِيلْ، وإذا كان الاتجاه سليما، فهل سيتوقف السائق عند المحطة؟ وإذا توقف هل سأتمكن من النزول دون أن أثير انتباها؟...

 

نام الخفير وتعالى غطيطه. فتح السائق المذياع لبعض الوقت.. كانت محطة المشتري تبث إعلانات تتخللها الوصلات الموسيقية.. ثم عهد إلى السائق الآلي بقيادة الشاحنة، وأرخى مقعده إلى الوراء حتى كاد أن يتحول إلى سرير.. ثم صوب شاشة الفيديو لتناسب وضعيته، ووضع شريطا داعرا خليعا... لما استيقظ الخفير، أخذا في حديث، له بداية وليست له نهاية، حول مشاريعهما.. قال الخفير:

ـ أنا جمعت مرتبي أربع سنوات.. لكني لا أعرف كيف أستثمر أموالي.. أحيانا تراودني فكرة القمار.. لكني لا أجرأ عليها لما فيها من مخاطرة...

ـ تستطيع أن تربح كثيرا إذا راهنت على أحد الخيول في سباقات المريخ..

ـ لا! أنت لا تعرف السماسرة هناك!

ـ تستطيع أن تجرب حظك في البورصة...

ـ مستواي لا يرقى إلى مستوى البورصة، إنها تتطلب رأسمالا ضخما.. أعتقد أني سألجأ إلى وضع فلوسي في حساب ادخار.. قيل لي إنها ستزيد ثلاثة أضعاف إذا تركتها خمسة عشر عاما بدون مساس!

ـ وماذا ستصنع بهذه الفلوس الكثيرة إذا استلمتها بعد خمس عشرة سنة؟

ـ أتزوج، وأبتني دارة جميلة، فيها ملجأ واق من الإشعاع النووي!

ـ ما أسعدك! أنا لست محظوظا مثلك.. لا أملك شيئا.. ورغم ذلك، خطيبتي مصرة على أن نتزوج في ظرف خمس سنوات، عندما تنهي دورتها حول العالم بالدراجة! حاولت أن أقنعها بالعدول عن فكرة الزواج خلال خمس سنوات، لكني فشلت.. إنها عنيدة.. أكرر عليها دائما أن الزواج غير ممكن، إلا إذا أصبحنا أغنياء، لكنها لا تقتنع.. في واقع الحال ليست المشكلة مشكلة فلوس.. أسمع! أليس الزواج يعني إنجاب الأطفال؟

ـ نعم، بطبيعة الحال.. لكي ننجب أطفالا، ونستمتع في آخر أيامنا بمداعبة أحفادنا في ليالي الشتاء، إزاء الموقد...

ـ مشكلتي أنا أني لا أريد الإنجاب، وخطيبتي ترفض أن تفهم ذلك! لماذا الإنجاب في هذا العالم الرهيب؟ في هذا البيدر من النفايات السامة؟ لماذا ننجب الأطفال لنحكم عليهم بالشقاء والموت، مستضعفين في الأرض بين منبوذي النظام الشمسي، ليس لهم ملاذ؟

ـ أنت متشائم! يمكن لأولادنا أو أولادهم أن يجدوا حلولا لتلك المعضلات ويهتدوا إلى مخرج من المآزق التي وضعناهم فيها... لكن عندما أفكر يظهر لي أن الحق هو ما تقول... مسؤوليتنا جسيمة!...

 

بعيد العصر توقفت الشاحنة في ساحة واسعة مكتظة بالشاحنات أمام بناية كبيرة على واجهتها لوحة مضيئة كتب عليها: "اطْوِيلْ.. شاي، هامبورڤر 24 ساعة".. نزل فريق الشاحنة، فتح السائق غطاء المحرك.. كانت الساحة تئز بأصوات الماكينات.. بعضهم ينظف محرك سيارته، وبعضهم يزودها، وبعضهم يفتش لها عن موقف مناسب.. كان بعضهم يجيء لتوه ويتوقف وبعضهم يستعد للمغادرة.. دفعت الباب ببطء.. كان غير مغلق.. انزلقت وسقطت على الإسفلت.. التفت السائق ناحيتي لحظة، ثم رجع ببصره إلى ما كان فيه.. غادرت الشاحنة دون أن ألتفت خلفي... لقد أكد لي انْمَادِ أن دار فاله تقع خلف الأخدود الكبير بالجانب الأيمن من الطريق السريع، عند الخروج من محطة اطْوِيلْ.. خط لي مع العنوان تصميما أستدل به... كنت أفتش عن الورقة في جيب البزة.. كان ذلك صعبا لأن يدي كانت مصلوبة في القفاز.. رأيت أمامي لوحة كتبت عليها كلمة "اطْوِيلْ" يقطعها خط أحْمر مائل.. نظرت إلى اليمين.. رأيت الأخدود غير بعيد.. هبطت في غوره ثم صعدت التل من ورائه، كانت أنفاسي تتلاحق سريعة.. مباشرة أسفل التل، رأيت دارا صغيرة يسيجها حائط من الشجر المرصوف.. هبطت إليها مسرعا، يساعدني المنحدر، دون أن أتوقف لالتقاط أنفاسي... سمعت نباح الكلاب داخل الحوش.. لم أهتد إلى المدخل وبعد دورة شبه كاملة، عثرت على باب خشبي في الجانب الآخر.. ضغطت على الجرس مرة، مرتين، ثلاثا، أنادي: "فاله حَلِّ الدار!" ولا أحد يأتي..

 

كان النباح يتعالى من الداخل بلا انقطاع، كما في الصيد.. تذكرت بزتي، شجعني ذلك على الدخول من غير إذن.. كان الحائط الواسع يشبه غابة برية لا سلطة عليها للتنظيم.. الأشجار كثيفة تحاصر الرؤية.. صرت أرى من خلال الأشجار بعض جوانب الدار وأسمع النباح الذي يتعالى ويقترب.. مررت بمحاذاة الدار.. في الساحة خلف الدار، رأيت شابة يحيط بها قطيع من الكلاب الشرسة، وبجانبها نماذج مفترسة هي نسخة طبق الأصل من السائق والخفير.. لكن شيئا ما أرعب الكلاب، فاجتمعوا خلف المرأة كأنما يحتمون بها من خطر مجهول.. انبطحوا على الأرض.. النباح الغاضب المتحدي تحول إلى عواء شاك خائف! انتقل الرعب من الكلاب إلى الفتاة.. تسمرت في مكانها، تلتفت في جميع الاتجاهات.. لما اقتربت منها، اشتد فزع الكلاب، صارت أحناكها ترتجف وتصطك أسنانها ..

ـ أنت هي فاله؟

تلفتت في كل الاتجاهات، كادت تصعق من الفزع..

ـ يا إلهي! ما هذا؟

تذكرت فجأة أشعة سُولِيمَا.. نزعت بسرعة القلنسوة..  كانت الفتاة توليني ظهرها، تفتش بنظراتها في الجانب الآخر..

ـ أنت فاله؟

صاحت صيحة فظيعة، ثم التفتت إلى ناحيتي وصاحت صيحة أفظع.. تراجعت خطوات وسقطت على قفاها بين الكلاب.. بقيت هامدة كالصريع.. ندمت.. كان يجب خلع البزة قبل الدخول.. خلعت البزة تماما وحملت الفتاة بين ساعدي.. جلست مسافة من الكلاب، وأنا أسندها على ركبتي.. كنت ألطمها على خدودها لطما خفيفا وأخاطبها:

ـ انتبهي! استيقظي! أنا آسف، روعتك عن غير قصد، سامحيني، كنت قد نسيت أشعة سُولِيمَا!...

فتحت عينيها.. صاحت وقفزت بعيدا عني..

ـ من أنت؟ لماذا جئت هنا؟ رأسك نفس الرأس الذي رأيته قبل لحظات معلقا في الهواء بلا جسد!

كلّمتها بإسهاب عن بزة سُولِيمَا وأشعتها السحرية، لكنها لم تصدق.. كان لزاما علي أن أبرهن لها بالمشاهدة.. لبست البزة وخلعتها مرة بعد مرة، قبل أن تهدأ ويخف روعها.. لكن الكلاب مازالت مذعورة تصطك أسنانها..

ـ مسكينة هذه الدواب، لم أر الكلاب مذعورة كما رأيتها اليوم.. لم أكن أعتقد أنها تفزع إلى هذه الدرجة.. وأنا التي كنت أعتمد عليها لإبعاد اللصوص! لكنك أنت لست كائنا طبيعيا، أنت زلزال، أو ظاهرة كونية!

كلمتها عن انْمَادِ.. قالت إنها لا تتذكره..

ـ قال لي إنكما كنتما معا في مدينة الرياح، قبل الحكم عليه.. وأنك أصبحت تسكنين هنا، بعدما أرسلوه إلى المركز...

ـ لا أذكره.. سامحني الآن.. أريدك أن تدخل في البيت حتى أهدئ الكلاب..

 

وجدت صعوبة في اجتياز عتبة الدار، بسبب الطيور الكثيرة الداخلة الخارجة.. كان داخل الدار أكثر فوضى من الحوش.. كانت أشبه بمشتل مختبري للعلوم النباتية: نباتات من كل نوع، من كل فصل ومن كل مناخ، تتعانق أغصانها؛ ورود عطرة، صارخة الأوان؛ أحجار وأتربة من كل أنواع الأراضي؛ طيور غريبة رائعة؛ دويبات لا حصر لها، بينها الثعلب الصحراوي واليربوع، يمثلان فصلا من فصول صراعهما القديم.. فتشت عن مكان للجلوس.. كان ثمة مقعد أو اثنان ووسائد مبعثرة.. شققت طريقا وعرا بين النباتات وجلست على وسادة.. مع اقتراب الليل اشتدت زقزقة الطيور وحركاتها الدائرية التي لا تتوقف، أحيانا كثيرة تصطدم بالسقف.. تتسابق لأخذ المجاثم المفضلة على مَدَرِ السقف..

 

لما جاءت ووجدتني جالسا على الوسادة، غير مرتاح، أحاول ألا أخدش نبتة من نباتاتها أو أدهس حشرة من حشراتها الكثيرة المتراقصة عند قدمي! أشارت لي برأسها وقالت:

ـ تعال نصعد!

صعدنا مع سلم دائري من الخشب شديد الضيق، لم أنتبه لوجوده.. أدخلتني غرفة مربعة حيطانها مغلفة بالقماش، فيها وسائد كثيرة مبعثرة وأجهزة هُولُوفِزْيُون وفيديو، وبيدر من الكتب.. جلست على وسادة.. وانخرطت في نوبة متواصلة من العطاس.. قدمت لي شرابا منعشا عطرا ..

ـ سامحيني في هذه الزيارة على غير موعد...

وبما أنها لم تجب، تابعت حديثي وأنا أحس بشيء من الضيق:

ـ أنا وحيد في العالم، هل تعرفين ذلك؟

ـ أليس لك أهل أو أصحاب؟

ـ أبدا! ولا أحد!

ـ وسُولِيمَا هذه التي هربتك؟

ـ تلك؟ لا يمكن أن تتصوري! أنا لا أعرف لماذا أشير إليها بالمؤنث... هي ليست امرأة... ليست حتى بشرا... إنها غولة أو غول، مصاصة دماء تتغذى بالكلام، جاءت تصطاد البشر، مسافرة عبر الثقوب السوداء، من نقطة إلى أخرى في برج التبانة... أخذت شكلها البشري على المريخ قبل أن تهبط على الأرض..

ـ وأين أهلك؟ ماذا حل بهم؟

ـ أهلي! ليس لي أهل... أنا خلقت هكذا! كما ترينني! فتحت عيني على الوجود منذ أشهر فقط! كان ذلك على قمة اظْهَرْ، قرب إِيمْدَلْ...

لم تتمكن من حل لغزي، رغم محاولاتها المتكررة.. قبلت بي كما أنا، من باب الأمر الواقع.. تنازلت عن محاولتها لاستكناهي، أدمجت غرابة وجودي في اللامعقول.. ثم نسيتها مع الزمن.. حتى الكلاب أصبحت مألوفا عندها، صرت أداعبها وأمسدها...

 

كانت فاله حزينة دائما.. تبكي أحيانا بدون سبب مفهوم.. تعلقت بي شيئا فشيئا.. كنت كما لو أني طير من طيورها أو دويبة من حشراتها.. كان يبدو لي أحيانا أنها تعتبرني شاهدا على عالم مضى، أثرا واهيا من زمن انصرم.. عندما تلامسني تفعل ذلك بحذر وحنان، كأنني آنية خزفية ملكية عثر عليها باحث مهووس.. كانت تغيب أسابيع طويلة.. أسكن البيت وحدي مع النباتات والحيوانات.. وفي الليل أقرأ مخطوطاتها الشعرية التي تتغزل بالطبيعة.. عندما أقرأ شعرها يخيل إلي أنها حاضرة، تكلمني.. لا حدود لشغفها بالطبيعة.. لهذا غادرت مدينة الرياح، وسكنت في هذه الضاحية المعزولة.. بغضها لمدينة الرياح جعلني أكرهها بالعدوى.. أصبحت أعرف هذه المدينة بشكل دقيق لكثرة ما وصفتها لي.. أتصورها مجللة بالغبار المشبع بالإشعاعات النووية من حاويات النفايات التي تتقيأها البواخر على الميناء، غبار يعطي لنهارات المدينة لونا أشهب، لون الفاقة والكآبة والاضمحلال.. ليس للمدينة مخطط عمراني؛ الناس يَڤْژُرُونَ أرضها على قدر حالهم، يبنون أكواخا أو قصورا؛ يتنافسون في سوء الذوق.. أكوام القمامات المحيطة بالمدينة تحفظها من ابتلاع الرمال.. وطرقاتها المغبرة تسدها القمامات والحيوانات السائبة: المعز، الحمير، البقر، الإبل، الكلاب، والقطط.. الحيوانات تموت مسمومة من النفايات التي تعيش عليها أو بسبب صدمة سيارة مجنونة.. تبقى الجيف مكانها، تنتفخ ثم تنفجر وتتحلل.. روائحها النتنة تحول المدينة إلى مستودع تصب فيه مختلف مجاري القاذورات.. كانت دائما تقارن مدينة الرياح بجرح سائل بالصديد..

 

سكان مدينة الرياح لا يشعرون بالسموم السارية في أجسامهم وأرواحهم المخدرة، ويطفئون مرارة أحوالهم بأن حكومتهم تحصل على ما تحتاج من عملات صعبة.. لكن العملات الصعبة المحصلة من تحويل البلاد إلى مستودع للنفايات النووية والمواد السامة، لم تكن توزع بعدالة، بل كانت مقتصرة على تَنْڨَلَّ وحاشيته.. الشقاء والظلم تقرأهما على غضون الوجوه.. الهوة الفاصلة بين أغنياء المدينة وفقرائها تزداد بسرعة فظيعة.. الشمال الغربي في محاذاة الكورنيش، الحي السكني الراقي، المتكون حول قصر تَنْڨَلَّ، توجد فيه السفارات والفنادق وقصور الحاشية.. هذا الحي الراقي نقطة في جنب ثور اسمه مدينة الرياح، مئات الآلاف من علب الصفيح الصدئة المتراكمة بعضها فوق بعض، يزداد عددها كل يوم.. وقذاراتها كل يوم.. وعاهاتها كل يوم.. قُربُ الميناء الذي تقيء عليه البواخر حمولة السموم، يرفع درجة التلوث..

 

البشر والدواب والماكنات تتحرك في جميع الاتجاهات بحثا عن قوت اليوم.. من حين لآخر يحدث توقف بسب موت مفاجئ أو حادث سير مروع أو سيارة وقعت في وحل طريق رملي، فسدت الطريق.. وربما سدها جمهور تائه، تكون صدفة على إثر خناقة أو سرقة أو اختطاف.. ثم يتفرق الجمع وتستأنف الطرقات سباقها الجنوني.. مع الليل يهدأ الضجيج .. ويتكرم البحر على المدينة الكئيبة بنفحة منه.. يصفو الهواء قليلا ويطيب.. تضيء الطرقات بمصابيح علب الصفيح المرقعة وبعض السيارات الفاخرة التي تلمع لها عيون المومسات، كالقطط على الأرصفة..

 

تجارة المخدرات، والبوتاسيوم المزدوج باليود، تزدهر بالليل.. المخدرات تنسيهم أنهم خلقوا أصلا، وأحيانا تنسيهم تعب يومهم وتكفيهم مؤونة التفكير في غدهم.. أما البوتاسيوم فيساعد الذين يمسكون بالحياة من ذنبها ليوم أو شهر أو عام، قبل أن تخلفهم وراءها وتمضي، فيموتون ضحية للإشعاعات النووية والتسمم.. مسؤولو "المؤسسة الوطنية للوقاية الصحية" يحتكرون المواد المقاومة للإشعاع والتسمم ويبيعونها بأسعار مضاعفة في السوق السوداء، ولا يقبلون إلا العملة الصعبة.. المهربون هم الزبائن الكبار.. في جميع ساعات النهار ترى طوابير الناس أمام مكاتب المؤسسة، يطلبون حصتهم وفي نهاية كل دوام، يطلع عليهم المسؤولون بالتناوب يقولون لهم: "نفد المخزون هنا! روحوا إلى محل آخر!".. الأكثرية التي لم تجد حصتها من مواد الوقاية يتحتم عليها أن تشتريها في السوق السوداء.. حدثتني مرات عديدة عن إحباطاتها المتكررة بعد سهرتها، حتى طلوع الصباح على المساحات الشاسعة الشهباء من علب الصفيح: "ما أعظم الفرق بين بهاء السماء في الليل وهذا المشهد الكئيب! مدينة تذكرني في صباحاتها بالمومس المستيقظة من نومة كابوسية بعد ليلة من التهتك، اختلطت مساحيقها وعرقها ودهانها، وارتخى ما كان مشدودا من تجاعيد وجهها، وشكل كل ذلك لوحة يمتزج فيها القبح والدمامة والغش والخديعة والنجاسة والعهر والفسوق.. أمام هذا المنظر لا أستطيع أن أمنع نفسي من تساؤل مهلك: ما الحكمة من وراء وجود البشر؟"..

 

في إحدى الليالي، عندما كانت نائمة إلى جنبي، أيقظني نشيجها.. ألححت عليها في السؤال: "ما الذي يبكيك؟"، ولأول مرة حدثتني عن طفلها الذي أبقوه عنوة عنها في مدينة الرياح، لأنه لم يكمل المدرسة الإجبارية. "حاولت اختطافه مرتين، لكن الرقابة كانت تهتدي إلى مخبئي في كل مرة وينتزعونه مني! آخر مرة وضعوني على إثرها في السجن ولم يفرجوا عني إلا بعد أشهر.. أنا مستعدة لكل شيء من أجل إنقاذ طفلي!" نطقت هذه الجملة الأخيرة بنبرة مأساوية، كأنها تنبئ بكارثة وشيكة..

 

كنا أحيانا نشاهد الهُولُوفِزْيُون قبل النوم ونحن في السرير.. في تلك الليلة، كانت قادمة لتوها من أحد أسفارها الغامضة.. كان الهُولُوفِزْيُون يعرض نشرة الأخبار.. افتُتحت النشرة بصورة كبيرة مبتسمة للرئيس تَنْڨَلَّ وهو يستقبل الرئيس المدير العام للشركة الدولية لمعالجة النفايات السامة والمواد الخطيرة.. لم تستطع فاله أن تتمالك نفسها: "أنظر! إنه يضحك لذلك الخنزير! من المؤكد أنه يحاول الحصول منه على تمويل مركز جديد!" كان صوت خلفي يعلق على المقابلة: "...تربطهم بدولتنا علاقات مثمرة.. يجب أن نذكر هنا بأن بعثة من خبراء الشركة الدولية لمعالجة النفايات السامة والمواد الخطيرة زارت منطقة الحوض الشرقي مؤخرا، ووعدت بإنشاء مراكز جديدة للتخزين ومصنعا لتكييف النفايات.." رجعت صورة المقدم إلى الشاشة.. رغم سماكة طبقة طلاء البودرة، فإنها لم تستطع إخفاء علامات الإرهاق على وجهه الغليظ الملامح.. كان يقرأ نشرته من على شريط خفي، بصوت محايد آلي، ذي نبرة واحدة، سوءا كان ينقل أخبار الكوارث أو الأفراح.. "وردني للتو هذا الخبر العاجل: أعلنت جبهة إنقاذ المجابات الكبرى مسؤوليتها عن تفجير شاحنة محملة بالنفايات السامة والمواد الخطيرة، كانت متجهة إلى أحد مراكز التخزين في الحوض الشرقي، وقد لقي رجلان مصرعهما في هذه العملية التي تقدر الخسائر المادية المترتبة عنها بعدة ملايين من الأوقية.. من المعروف أن جبهة إنقاذ المجابات الكبرى تكتتب عناصرها أساسا في أوساط انْمَادِ، تلك القبيلة القديمة التي كانت تعيش من صيد المها في المجابات الكبرى. ويستخدم الإرهابيون طرق الصيد نفسها التي كان يمارسها انْمَادِ القدماء، لكن بدل المها المنقرضة أصبحوا يدربون كلابهم السلوقية على اصطياد سائقي الشاحنات والخفراء.. وتنفذ هذه العصابة عملياتها أساسا على الطريق السريع إلى مراكز التخزين في المجابات الكبرى، خاصة الجزء الرابط بين تَامَكْرَرْتْ وأَوَانَ.. أخيرا إليكم هذا الخبر العلمي : أعلنت فرقة من مركز البحوث الجيولوجية أن غاز ثاني أكسيد الكربون، النائم في طبقة الصخور الرسوبية، بدأ يتبخر تحت ضغط الحرارة المتزايدة على الأرض، ويؤكد الخبراء أن استمرار هذه الظاهرة سيؤدي إلى غليان المحيطات، وتحول الكرة الأرضية إلى تنور الشيطان..."..

 

أيقظتني فاله في السحر.. كانت قد أشعلت الضوء، وهي ترتعد، مبللة بالعرق.. كانت قطرات صغيرة عالقة بشكل فوضوي على جبينها وعارضيها، كحبات الندى.. قالت لي إنها وقعت تحت وطأة كابوس مرعب: "كنت في نوم متقطع.. جاءني ذلك المارد المسخ.. عنقه طويلة رقيقة، ووجهه نحيف، مقعر، ناتئ العظام؛ عيناه حمراوان، غائرتان في بئرين عميقتين؛ جبهته ضيقة، مغضنة كأم التلافيف؛ منخراه كفوهتي النافوخ؛ فمه كالجرف، شفتاه كطبيي الشاة الحلوب؛ ذقنه قصير، مدبب كمؤخرة السندان؛ لحيته كعثنون التيس؛ أذناه طائرتان كقرني مهاة؛ شعره أسود مختلط.. أسنانه كفكي الكلب؛ ذيله ذيل قرد.. له ذروة في ظهره كما في صدره؛ يرتدي شبارق أسمالا.. أوقد نارا فظيعة قرب السرير، نصب عليها مرجلا ضخما وأمر تَنْڨَلَّ أن يسعر النار تحته.. كانت عنده مذراة طويلة ينخسه بها ويتوعده.. فار المرجل.. نزع المارد ثيابي وألقى بها بعيدا، ثم قبض علي من وسطي وألقى بي في المرجل الفائر.. صحت، وإذا بي مستيقظة، مرهقة، خائرة القوى.. لبثت وقتا طويلا مستلقية على قفاي فوق شراشف السرير المبللة.. وكلما رجعت إلى مخيلتي صورة المسخ، اقشعر بدني من أخمص قدمي إلى ذؤابة رأسي.. مستحيل أن أنام بقية الليلة!"..

حاولت تهدئتها والتخفيف عنها.. لكنها بقيت شاكية مرعوبة:

ـ نحن تحدق بنا الكوارث الرهيبة، ولا نبذل الجهد اللازم لتفاديها.. أخاف أن ترتفع الحرارة بما يحول الأرض إلى جحيم.. أخاف أن يتجدد طرد آدم من الجنة بطرد أحفاده من الأرض، ليبدئوا تيها أبديا.. لن يبقى لدينا من الأرض سوى صورة تلسكوبية، كالصورة التي لدينا من الزهرة... أرضنا اليوم عالم في سكرات الموت، لم تعد الحياة قادرة على الصمود أمام ظلم وجهالة البشر.. لن تستمر الحياة مع التلوث الكيميائي والنووي، مع التصحر والتضخم السكاني والنقص في المياه والأغذية.. البشر مسؤولون عن الكوارث الأرضية.. دمروا المحيط الطبيعي بطريقة عمياء وغير معقلنة، من أجل تحقيق أرباح زائفة وقصيرة الأمد، ومن أجل إرضاء نزوات سخيفة، وبما يضر بمصالح سكان الأرض على المدى الطويل.. تكوّن غطاء من التلوث وغاز الكربون وبخار الماء حول الأرض، وكثف جوها بحيث أن الأشعة الحارة تحت الحمراء ما عادت قادرة على مغادرة الأرض.. إذا استمر هذا الاتجاه فسترتفع درجة الحرارة على الأرض، سيصبح كوكبنا مرجل الشيطان! المسؤولون الحقيقيون عن هذا الوضع هاجروا عن الأرض وتركونا في جحيمهم الذي أوقدوه ...

كنت متفهما لأسباب تشاؤمها وإحباطها، لكني حاولت أن أمنحها بصيص أمل:

ـ أنت على حق! الحياة على الأرض صارت مستحيلة.. لكن ثمة أماكن في النظام الشمسي وأماكن أخرى ملائمة للحياة.. أنا وأنت سنغادر هذه الأرض العجوز الشمطاء، لنعيش تحت سماوات أرحم.. نتجول في صحارى قمرية ونتلهى على سواحل المريخ القديمة أو في غابات سماوية منسية.. أو نهيم على وجوهنا في مدن مجرية بعيدة، بعيدة ...صحيح أن ثمة أحزمة أمن حول الأرض، وتأشيرات مغادرة الأرض التي يصعب الحصول عليها...

ـ أنت تعرف تماما استحالة إنجاز هذه المشاريع الخيالية... نحن نعيش في محيط مشحون بالتلوثات الكيماوية والنووية، وأملنا في الحياة يكاد يكون معدوما.. والمشاريع محرمة علينا!

انتقل إلي إحباطها بالعدوى، فغامرت بشجاعة لست راغبا في امتحانها:

ـ لابد أن نفعل شيئا! مستحيل أن نبقى نتفرج على الشر ولا نحرك ساكنا!

ـ هذا بالضبط ماكنت على وشك أن أقوله لك.. كلابي أصبحت جاهزة.. دربتها على اصطياد الشاحنات ورجالها.. نستطيع أن ننفذ علمية ضدهم الآن!

داهمنا الصباح الغادر ونحن مازلنا نناقش تفاصيل العملية!

 

بعد أيام وجدنا أنفسنا في منطقة الشَّڤَّاتْ ومعنا قطيع الكلاب.. ترصدنا طريدتنا خمسة كيلومترات قبل نقطة الانقضاض.. كانت شاحنة ضخمة متوقفة في إحدى نقاط الاستراحة.. كان سائقها وخفيرها يطعمان غداءهما.. عند نقطة الانقضاض، قسمنا الكلاب نصفين وانبطحنا ومعنا الكلاب المحفزة السريعة الشمرية على جانبي الطريق، خلف الألسنة الرملية الممتدة بارتفاع قليل في محاذاة الطريق.. استلقيت على الرمل ومن ورائي الكلاب منبطحة، عيونها معلقة بيدي؛ أبسط إشارة وتنطلق كالسهام..

 

عندما وصلتنا الشاحنة أو كادت، دوت في الصحراء صيحات كثيرة اجتمعت كلها في صيحة واحدة: "أَلَحْڤُوا! أَلَحْڤُوا! وَشْ! وَشْ!" دوى النباح الشرس وانتفضنا من الأرض، كأنما نحن طالعون من جوفها، في إثر الكلاب الهاجمة على الشاحنة.. رحنا نركض في إثرها، والشاحنة تزيد سرعتها والكلاب تتسلقها من كل جانب، بعضها تشبث بالعجلات وصار يدور بدورانها، غارزا مخالبه وأنيابه في المطاط، وبعضها قفز قفزة بطول الشاحنة، فصار على مقدمتها.. سمعنا صوت طلقات نارية في خضم عواء الكلاب التي دهستها الشاحنة قبل أن تضطر إلى التوقف أخيرا.. صوبت صخرة بكامل القوة المكتنزة في ساعدي إلى الواجهة الزجاجية الأمامية فأحدثت فيها ثغرة كبيرة كفوهة الغار، مكنت بعض الكلاب من الاندفاع في الكابينة.. أطلقوا النار بعشوائية، فأصابوني.. لكن المعركة الحاسمة وقعت داخل الكابينة التي امتلأت على السائق والخفير بالكلاب الشرسة المسعورة.. الكلاب الأولى التي دخلت في الكابينة، التحمت بالوجوه.. أما الكلاب الأخيرة فقد أمعنت في تمزيق البزات وبقر البطون.. راحت الكلاب تسحب الجثتين الممزقتين من الواجهة الزجاجية المحطمة.. كانت جثة الخفير ما تزال ممسكة ببندقية آلية عندما أخرجتها الكلاب.. تدحرجت ساقطة لترتطم بالإسفلت الملطخ بالدماء.. انطلقت رصاصة طائشة، فتعاود الكلاب الجثة توسعها نهشا وتمزيقا... أمطرت السماء وابلا من نار.. سحبتني فاله للدخول تحت الشاحنة للاحتماء بها.. أبادت نسور حديدية الكلاب جميعا.. أوثقونا وحملونا إلى المروحيات.. نقلوني إلى ثكنة آغْرَيْجِيتْ...

 

اليوم الأول، جاءني محققون يثيرون الرعب، عضلاتهم منتفخة.. سألوني عن معضلات وألغاز لا أملك لها جوابا: "من أنت؟"، "من أين أنت قادم؟"،"ماهي دوافعك؟"... ثم زارني شخصان يلبسان البدلة والنظارات الطبية.. كلاهما يحمل حقيبة منتفخة، تكاد تتقيأ.. قدما لي نفسيهما: أحدهما محام، والثاني مبعوث المنظمة الدولية لحماية السجناء.. أعطياني شكليات طويلة وعريضة لتعبئتها، بادئة بمعضلات من نوع: "الاسم"، " اللقب"، "اسم الأب"، "اسم الأم"...

 

أمضيت أشهرا في ثكنة آغْرَيْجِيتْ.. مبعوث منظمة حماية السجناء كان يؤكد لي دائما أن المحاكمة مستحيلة مالم تعبأ الأوراق.. لم أكن أعرف شيئا عن مصير فاله إلى أن سلمني مندوب منظمة حماية السجناء رسالة منها سببت لي صدمة كبيرة: أخبرتني أنها في مدينة الرياح وأنها نجحت في استمالة "عواطف تَنْڨَلَّ، الذي أخذ في الأيام الأخيرة يكلمني في الزواج!".. قدرة النساء على التكيف مع الظروف الطارئة شيء يثير العجب! أكدت لي أن الزواج مع تَنْڨَلَّ لا يمثل بالنسبة لها طموحا، لكنها ستوافق عليه بسبب ابنها الذي تنوي أن تسخر ظروفها الجديدة لتربيته.. اعترفت أنها تحس بشيء من الندم، وأنها لا تعرف إن كان حبها لابنها يبرر علاقتها بغول ملوث، وقالت إن جهالة الإنسان وظلمه هما وحدهما اللذان يبرران جنوحه للشر...

 

 جاءني المحامي مرة لإعلامي بأن القاضي قرر محاكمتي، وأنه لم يعد ينتظر تعبئة الشكليات.. نصحني بالبوح بهويتي، وإلا سوف يكون الحكم قاسيا.. هو إذا غير مقتنع بما كررته عليه شهورا، من أني لا أعرف من أنا؟ ثم وصلتني رسالة قصيرة من فاله، تعلمني بزفافها بتَنْڨَلَّ الذي سيحتفل به بداية الشتاء المقبل.. مثلت أمام المحكمة.. لم أكن أهتم بما سيحكمون.. اتهموني بكل الجرائم مجتمعة.. زعموا أني: "مأجور لصالح قوى خارجية"، " جاسوس مدرب تدريبا خارقا للعادة"، "إرهابي غرر بفتاة بريئة أفرط في استغلال عواطفها الخيرة"... الخ. صدر الحكم فلم يفاجئني: "...نظرا لكل هذا، فقد حكم عليك بالموت عطشا.. يطبق هذا الحكم على رأس جبل الغَلاَّوِيَّة"..

 

وجدتني على رأس جبل الغَلاَّوِيَّة أموت عطشا، تحيط بي دائرتان من الجنود، يبدلون كل ساعة.. لم يكن يشغل بالي سوى زفاف فاله و تَنْڨَلَّ بعد موتي.. طوال سبعة أيام سيظل سكان جمهورية المنكب البرزخي محتفلين بزواج رئيسهم.. ستأتي برقيات ورسائل التهنئة من كل أنحاء العالم.. لكن الطقس لن يكون احتفاليا: العاصفة الرملية الموسمية ستنطلق بداية الشتاء، لمدة شهرين بدون انقطاع، تملأ مناخير الناس وأعينهم، وصماخ آذانهم بالغبار الأشهب كريه الرائحة.. لكن ذلك لن يمنع البرزخيين من الرقص والغناء بحناجرهم المزكومة بالغبار والإشعاعات النووية.. سيأكلون وجبات معجونة بالحصى الذي يطن بين الأضراس.  أسبوع قبل الزفاف، ستسلم فاله إلى الصانعات اللواتي يحضرن العروس ويزينها في التقاليد البرزخية : ضفارات ماشطات، محنيات، مقيمات الشاي، حكوائيات مشاءات بالنميمة وناشرات للفضائح.. سوف يشحن العروس بعبارات الدعارة وأوصافها لكي ينسفن منها كل بقية حياء، تحسبا لليلة الزفاف..

 

طوال كل تلك المدة، سيخيل إلى فاله أنها جنازة يهيئونها للدفن.. لكن الصانعات، اللواتي يشتغلن بها من كل ناحية، سيكن مرحات، خليعات؛ بعضهن يصخب بأصوات عالية، وأخريات يقهقهن كالقرود. بعضهن مشتغل بتصفيف وفتل وفك ضفائر العروس، يسرحن هنا ويضفرن هنا، ويدهن هناك. وأخريات يأخذن اليدين والقدمين، يضعن عليها الزخارف ذات الأشكال البديعة، ينحتنها بدقة بالشفرة والغراء اللاصق؛ بعضهن يضعن قطع الثلج على القدمين واليدين، لكي لا تعرق ويسقط الغراء وتختلط أشكال الزخرفة.. يعملن عجينة من الحناء الخضراء الناعمة السحق، اللماعة، قبل إلصاقها على اليدين والقدمين.. ثم يغلفنها بأغلفة بلاستيكية لمدة لا تقل عن أربع وعشرين ساعة، ستبدو خلالها كالمومياوات المصرية القديمة، أو الجسور والعمارات التاريخية التي كان اكرستو جافاشيف يلف في الورق...

 

في زوايا الغرفة، سترسل المباخر ألسنة دخانية رقيقة تسافر إلى السقف، كأنها أرواح العفاريت التي ظلت حبيسة في القماقم، حتى قُيضت لها يد حررتها من سجن سليمان.. وستكون ثمة وصائف يرفعن أذيال العروس، يدخلن تحتها المباخر لتتشبع الثياب والجسد معا برائحة البخور المثيرة.. سيكون هواء الغرفة خانقا، كأنه عجينة تخدر الحواس وتحررها من الارتباط العضوي بالأوكسجين، وتولد إحساسا غليظا بحيوانية الحياة. بعضهن سيشتغلن على ملحفة الزفاف، بنيقتان من قماش أسود رقيق شفاف.. أسبوع قبل الزفاف، لابد أن تبقى الملحفة موضع عناية ترش بخليط من العطور، تُبَخَّرُ، يُذَرُّ عليها مسحوق اللبان وتبرم، تكمش، تكرمش وتحفظ في آنية بلاستيكية لكيلا يذهب أريجها..

 

سيكون شعر فاله مضفورا ومحلى بالخرز والخوص الأبيض والعقيق ...عندما تُبعث مومياوات القدمين واليدين، ينسُل عجين الحناء بواسطة عيدان مقلمة، تحركها أصابع الصانعات بمهارة.. وتكشط أشرطة اللصوق المنحوتة، فتظهر الزخارف الحنائية الرائعة، الحمراء الذهبية.. واحتفاء بهذا الجمال، سيلبسونها خواتم الذهب وخلاخل الفضة، التي سيكون لها رنين ذو تأثير خاص في مخدع النوم، هناك في بئر الرغبة التي ليس لها قرار.. يخرجن ملحفة الزفاف يشبكن كمها للبس بالخلة البيض، بحيث يسمح للصدر بالبروز.. وتتدلى على الصدر القلائد والجدائل والضفائر المحلاة، المرسلة في كل الاتجاهات من فوق الأقراط الذهبية...

 

تصورتها وهي تلقي نظرة لامبالية على الجريدة الموضوعة على خوان فطورها السريري، فتطالعها صورة رأسي العاري في الشمس، وبعدها صورة جثتي المغبرة يحيط بها النسور.. تصورتها تقرأ الكمات تحت الصورة: "إلى النهاية رفض البوح باسمه" أو "ماذا قد تكون آخر فكرة في رأسه؟".. وستكون ثمة صورة أخرى لوجهي الملغي، تظهر علامات النشوة الروحية والانخطاف والوله؛ قد تكون تحتها عبارات من نوع: " كل شيء انتهى!"، " أخذت العدالة مجراها!" أو "لم يبق إلا الصمت!" وقد لا ترى شيئا من كل ذلك، قد لا تراني إلا بعد أن أصبح هيكلا عظميا مفرغا من لحمه؛ أو لا ترى من ذلك الهيكل سوى جمجمة غسقت حفيرتا محجريها ووقبت، معروضة في أحد المتاحف...

 

الجوع والعطش طردا مشهد زفاف فاله، الذي حل محله رعب فظيع وكره مقيت للجنس البشري.. الألم الذي لم يعرف مثله، يزحف رويدا رويدا.. إنه يبتلع الجسد كما تبتلع الرمال غرقاها.. الشفاه والفم والمريء تيبست وتكسرت.. المعدة والأمعاء تتلوى، كأن قوة هائلة تعتصرها لاستخراج ما تبقى فيها من ندى.. نار شرسة تحرق الأحشاء.. ويمتد الحريق ليلتهم الوجه واليدين والصدر... عندما أحس بالنسور تهبط على جسدي بمخالبها المسننة، وأحس بمناقيرها الفولاذية تنهش بدني، ينتفض جسمي انتفاضة شديدة يائسة.. تترك النسور قبضاتها وتتحلق حولي غير بعيد، ترف بأجنحتها، تختال، تنتظر وعدا مؤكدا حان وقته.. آلام مبرحة تسري في عظامي، في لحمي وفي عروقي، تظل تتزايد في نوبات مفاجئة، ثم تمر بمرحلة جزر قليلا، ليرجع المد أقوى مما كان.. أحس كأن قلنسوة من حديد عضت رأسي وراحت تضيق عليه، تضغط بصورة متزايدة.. تجاوزت عظام الرأس لتعض على الدماغ. انفجرت في كياني حمى نافض، أعقبها إحساس بالانهيار الكلي، فطلائع الغيبوبة... هدأت الآلام، ارتخت الأعصاب وتمددت الرجلان، هدأت العروق اللاهثة، فلم تعد عطشى ولا جائعة.. أسمع طنينا متواصلا في أذني.. أحس بموجات صوتية طويلة.. أحس كأني وسط جمهور كبير.. أكاد أميز من الضوضاء جوقة من الأصوات الصديقة: يبدو أن الصحراء امتلأت بالسكان لمشاهدة موتي... أنا في عالم جديد تهاجمني خلاله ذكريات تافهة، غريبة، من الحياة التي تغادرني...

 

أخذ النص مكانه في خانة الحفظ في المكتبة العمومية بمعهد أركيولوجيا الفكر البشري تحت عنوان: " سكرة موت برزخي"..