موسى ولد ابنو الروائي الموريتاني من بلد المليون شاعر

موسى ولد ابنو الروائي الموريتاني من بلد المليون شاعر

الكاتب : رامي قطيني في : 4 أغسطس 2011

 

قلائل ربما أولئك الذين يعني لهم شيئاً اسم موسى ولد ابنو، أولاً لقلة من يقرأ وثانياً لأن الاسم نفسه ينتمي إلى بلد واقع خارج الضوء هو موريتانيا التي لا يذكر اسمها إلا متصلا بمشكلة التخلف والفقر أو مشكلة الصحراء الغربية، لكن أحدا لا يعرف على سبيل المثال أن الموريتانيين في معظمهم ينظمون الشعر ويتذوقونه ويحفظونه عن ظهر قلب. وإذا كان رقم المليون محبباً إلى العرب بحيث يتحدثون عن الجزائر بوصفها بلد المليون شهيد وعن العراق بوصفها بلد المليون نخلة، فإن موريتانيا مثلما يؤكد الكثيرون هي بلد المليون شاعر بالتمام والكمال!.

الخروج عن القريض ‏

غير أن موسى ولد ابنو يطل من مكان آخر هو الرواية. وهو لا يكتفي بالخروج على القافلة اللامتناهية للقريض الموريتاني بل يخرج أيضا عن المفهوم التقليدي للرواية ضاربا بخياله الخصب شبكة العلاقات المألوفة بين الواقع وتعبيراته ومطلا على عالم تأويلي يحل فيه الرمز محل الحقيقة وتتداخل فوقه الأشياء وظلالها، الأماكن وكائناتها المصارعة، في روايته الأولى المكتوبة بلغته الأم «مدينة الرياح» فاجأ موسى ولد ابنو قراءة بذلك الخلط العجيب بين التواريخ والأزمنة والوقائع حيث استطاع أن يحول الرواية إلى فانتازيا متواصلة من الرؤى والتهيؤات.وإذا كان الكاتب المقيم في فرنسا قد أفاد إلى حد بعيد من تقنيات الرواية الغربية والأمريكية اللاتينية فإنه يبدو من جهة مأخوذاً بالينابيع السحرية لـ «ألف ليلة وليلة» ويبدو من جهة أخرى شديد الحرص على أن تكون الصحراء بسكونها وأصواتها،بعمقها واندلاع نيرانها الخصبة، الخلفية الأبرز لعوالمه الروائية.

الشأن الآخر الذي يلفت في كتابة ولد ابنو هو ثقافته الواسعة التي تفيد من الرياضيات والفلك والتاريخ وعلم الأجنة والأجناس وغيرها من العلوم والمعارف التي يحسن توظيفها داخل نصه المشوق من دون أن يرهق القارئ باستعراضات مجانية. ‏

في روايته الثانية والتي أود الحديث عنها «الحب المستحيل» يقدم ولد ابنو مرثية للجنس البشري، منطلقا من الكشوفات العلمية المذهلة التي بدأت توكل التكاثر والإنجاب إلى التخصيب الاصطناعي والأنابيب والتقنيات الحديثة لا إلى الشغف والحب ونيران الأجساد. هكذا تحولت حركات تحرير المرأة وفق الرواية، حركات دفاع عن التخصيب الأنثوي فيما حول الرجال بدورهم جميع المستشفيات ودور الحضانة مراكز لإنجاب الذكور وحدهم، كرد طبيعي على هجوم الإناث. ‏

الرومانسية البالية ‏

باتت الكرة الأرضية إذا مهددة بحرب أهلية جنسية يمكن لأحد طرفيها الفوز إذا تمكن من القضاء على الجنس الآخر وإبادته تماما. وهو ما دفع بالجنسين إلى عقد هدنة طويلة الأمد تقضي بالفصل الكامل بين الجنسين وجعل الإنجاب في عهدة بنوك التخصيب دون سواها. ‏

العلاقات الجنسية أصبحت مقننة إلى أبعد الحدود ولم تعد تتم إلا ضمن مراكز الخدمة المختلطة التي تحول الأجساد «حصالات» اللذة المحض. أما الحب فقد منع تماما واعتبر من الكبائر التي لا يجوز التساهل معها كونها تعيد البشرية إلى زمن الرومانسية البالية والد لع الأخرق غير المبرر. لهذا كان الخاضعون للخدمة المختلطة يتعرضون للفحص الدوري عن طريق أجهزة قياس المشاعر حيث كان الحاملون لبذرة العشق يفردون إفراد «البعير المعبد»، على حد تعبير طرفة بن العبد، ويوضعون في مراكز تأهيل تتم فيها معاقبهم بقسوة عن طريق انتزاع جرثومة العاطفة الشريرة من دواخلهم وتحويلهم إلى ربوتات جنسية خالصة. ‏

في هذا الجو الغريب والبالغ الإثارة يقع آدم ومانكي في الحب حتى إذا اكتشف أمرهما بوساطة الأجهزة أرسل كل منهما على حدة إلى مراكز التأهيل التي جعلت من جسديهما مسرحاً لكل أنواع التعذيب وقتل العاطفة. غير أن ذلك كله لم يجد ما دفع السلطات المعنية إلى فصل أحدهما عن الآخر في شكل نهائي لا عودة منه. وفي لحظة اليأس النهائية يشير أحد المسؤولين عن إعادة التأهيل،إلى آدم أن الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامه ليبقى إلى جانب مانكي هو أن يغادر جنسه ويتحول إلى امرأة، عبر عملية جراحية مضمونة النتائج. لم يرفض آدم الفكرة على هولها وغرابتها فقد كان في سبيل الحب مستعدا للتحول لأي شيء. امرأة.. كرسيا.. غيمة أو غبارا. ‏

مرثية للجنس البشري ‏

هكذا تتحول الرواية إلى مرثية للجنس البشري بقدر ما تبدو كدعوة لخلاصه وإنقاذه. مع أن الرواية تحتفي بمنجزات العلم الحديث وتتصالح مع جوهره إلا أنها في المقابل صرخة مدوية في وجه تشييء البشر وتجويفهم ومكننتهم الكاملة. ‏

كأن ولد ابنو يريد أن يقول إن الصحراء ليست خارج الإنسان بل داخله وإن هدف كل أدب حقيقي هو مقاومة الجفاف والتصحر وإعادة المياه إلى مجاري العالم عبر الانتصار للحب وأهله.الحب وهو خارج الأجناس والأنواع والمفاهيم المتوارثة والأعراف، ألم يكن الكائن واحداً في البداية وقبل أن تخرج المرأة من ضلع الرجل كما يقال؟ وها هو آدم الجديد يعود إلى ضلع المرأة التي خرجت منه ويتماهيان معا فوق سطح الفردوس الجديد الذي ستتمخض عنه جهنم الثانية. ‏