موسوعة الثقافة الشعبية الموريتانية

موسوعة الثقافة الشعبية الموريتانية

موسوعة الثقافة الشعبية الموريتانية عمل رائد أنجزته في بداية التسعينيات من القرن الماضي، بالتعاون مع فريق من الباحثين، واعتبرته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، يونسكو (UNESCO)، أفضل عمل أنجز في عشرية التراث غير المادي ( 1990-2000). التراث غير المادي هو مفهوم يشير إلى مجموعة من الممارسات والعناصر التي ترتبط بالثقافات والتقاليد والمعارف والمهارات التي يمارسها الناس على مر الأجيال والتي تعكس هويتهم الثقافية. ويشمل التراث غير المادي معارف مختلفة، مثل القصص والأساطير، والممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات والمهارات الحرفية والفنون التقليدية والموسيقى التقليدية والألعاب التراثية والطهي التقليدي والتقاليد الدينية وأشكال التعبير الشفهي وغيرها من العناصر التي تحمل معنى ثقافيا واجتماعيا عميقا. تعمل اليونسكو على الحفاظ على تلك العناصر وتعزيزها ونقلها للأجيال القادمة. ومن أجل حماية هذا التراث الثقافي الحيوي، قامت بإنشاء برنامج للتراث الثقافي غير المادي، وفتحت الباب للدول الأعضاء لترشيح العناصر التي يرغبون في حمايتها والحفاظ عليها كتراث للبشرية.

في سنة 2005، زار الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع اليونسكو ليفتتح معرضا عن تراث موريتانيا الثقافي ومدنها التاريخية، وأجرى أثناء زيارته محادثات مع المدير العام لليونسكو، كويشيرو ماتسورا، الذي هنأه على ما قامت به موريتانيا في مجال صون التراث الثقافي ﻏير المادي وعلى نجاح حملة صون المواقع الموريتانية التاريخية المدرجة في قائمة التراث العالمي. وبعد اللقاء، اتصل بي مدير التشريفات هاتفيا من باريس، وكنت في نواكشوط لأني لم أكن عضوا في الوفد الرئاسي، وقال لي: "الرئيس تعهد لمدير اليونسكو بترجمة موسوعة الثقافة الشعبية إلى الفرنسية ويأمرك بإنجاز الترجمة في أسرع وقت ممكن". قمت بتشكيل فريق من الأساتذة الجامعيين وبدأنا الترجمة. تزامن ذلك مع وصول المرحوم، العقيد اعلي ولد محمد فال إلى الرئاسة، فأطلعته على التزام الدولة اتجاه اليونسكو وعلى تقدم الترجمة، فأمرني بمتابعتها والتعامل مع مطبعة في فرنسا لنشرها. ثم جاء سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، رحمه الله، الذي وافق بدوره على المشروع. اكتملت الترجمة وقرر الرئيس منحي تمويل طباعة 26000 كتابا وكتب إلى مدير اليونسكو يخبره باكتمال الترجمة. تعاملت مع مطبعة فرنسية بمبلغ ستة وثمانين ألفا وثالث مئة يورو. (86300€).

كتب مدير الديوان إلى وزير المالية يطلب منه تحويل المبلغ إلى حساب الصندوق الرئاسي الخاص في البنك المركزي، وذلك لتسهيل إجراءات التحويل. في الوقت نفسه، سافرت إلى فرنسا لتوقيع العقد مع المطبعة، على أن يصلني المبلغ في باريس، عن طريق .la Banque de France

مكثت عشرة أيام في باريس دون أن يصلني المبلغ، فأخبرت مدير الديوان أنه لم يعد بإمكاني الانتظار، فأمرني بتوقيع عقد النشر قبل العودة وأن ألتزم بالدفع قبل اكتمال الطباعة. عدت إلى البلد، لكني لم أتمكن من استلام المبلغ: ففي تلك الأثناء قرر الرئيس تغيير طاقمه وفقدت وظيفتي في الرئاسة. تمت طباعة الكتب، ولكن المطبعة تحتجزها منذ ذلك التاريخ (2007) حتى تسترجع مستحقاتها. انتظرت حتى سنة 2016، ولما لم أحصل على المبلغ واستمر حجز الكتب، أسست دارا ديوان للنشر

 (https://www.facebook.com/profile.php?id=100054639060831) وبدأت إصدار الكتب في طبعة جديدة على نفقتي الخاصة.

تراثنا الثقافي تراث ﻏني ومتنوع، تشكل خلال مسيرتنا التاريخية وساهمت أجيال وأجيال من أجدادنا في بلورته وصياغته، فهو جزء من ماضينا لكنه، وإن كان ماضيا فهو متغلغل في ذواتنا، سار في تصوراتنا، يسكننا ونسكنه. إن هذا التراث بشقيه الفصيح والشعبي عزيز علينا، فمنه نستمد السلوك القويم وبه نبني المفاخر وعليه نشيد صرحنا الحضاري. فالأمة، أي أمة، لا يمكن أن تنهض وتساير ركب الأمم بدون تراث حي؛ فعلى هذا الماضي يبنى الحاضر وانطلاقا منه يستشرف المستقبل. إن الشعب الموريتاني الذي عرف في السنوات الأخيرة تحولات عميقة، وبدأت عوامل الاستقرار والتمدن تعطي مفعولها عليه، لبحاجة ملحة إلى تدوين تاريخه وثقافته لتتحول من مخزون مروي إلى نص مكتوب يتناوله الباحثون ويجد مكانه في رفوف المكتبة العالمية.

كنت قد بدأت أفكر في صيانة تراثنا غير المادي منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. ولما عينت مستشارا ثقافيا في رئاسة الجمهورية، قررت جمع ونشر الحكايات والأساطير والأمثال والحكم، وطلبت من الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع مساعدة الدولة في إنجاز مشروعي التراثي، ففرغني لإنجاز المشروع ومنحني التمويل وأمر الوزير الأول آنذاك (سيدي محمد ولد بوبكر) بدعمي بسيارات رباعية الدفع. فشكلت فريقا من ثلاثين باحث أسميته "اللجنة الوطنية لجمع ونشر الثقافة الشعبية"، وكنت أنوي استصدار مرسوم رئاسي ينشئ اللجنة، لكن إصرار وزارة الثقافة على الوصاية عليها منعني من ذلك. وزعت أعضاء الفريق على جميع أنحاء البلد ووفرت لهم وسائل التسجيل وتكاليف البعثة وأعطيتهم مهلة شهر يعودون بعدها إلى العاصمة ليسلموا تسجيلاتهم. وبعد شهر، عادت البعثات وبدأ تفريغ الأشرطة الذي دام سنتين. حصلنا على مادة غزيرة، لا يمثل أجزاء الموسوعة الثلاثة التي نشرت إلا جزءا منها. بعد اكتمال عملية الجمع والتفريغ، بدأت مرحلة الفرز والتبويب والتفصيح، أي تحويل المدونة الحسانية إلى الفصحى. نشرت مختارات من الحصيلة في ثالثة كتب يتجاوز كل منها 400 صفحة، لقيت إقبالا كبيرا في موريتانيا وفي الدول المجاورة، ونفدت من السوق في أقل من 6 أشهر. لا شك أن هذه المادة أضافت بعدا جديدا للمكتبة الموريتانية، بل للمكتبة العربية عموما في ميدان الآداب الشعبية. لما شرعنا في طباعة الكتب، لم نستطع جعل أسماء كل الباحثين الذين شاركوا في إعدادها على الغلاف، فاخترت من بينهم ثلاثة، جعلت أسماهم مع اسمي على غلاف جزء "الأمثال والحكم"، وسبعة جعلت اسمائهم معي على غلاف جزء "حكايات الحيوان"، بينما أبقيت على اسمي وحده على غلاف الجزء الثالث، "حكايات الإنسان". منذ أن نفدت الطبعة الأولى للنسخة العربية، بعد أشهر من إصدارها عام 1995، وأنا أبحث عن وسيلة لإعادة نشرها، لكن لم يتح لي ذلك، حتى سنة (2024)، حيث وافق مركز الشارقة للتراث على إعادة طباعة الموسوعة.