لغتنا الجريحة
لغتنا الجريحة
موسى ولد أبنو
«اللغة العربية هي اللغة الرسمية»، هكذا يقول الدستور الموريتاني، الذي طالت التغييرات المتلاحقة بنوده، إلا مادته السادسة، التي وقفت التغييرات أمامها خاشعة، ولم تحرك ساكنا، لتظل عنوانا لهوية هذا الشعب وانتمائه. يقول حسام مصطفى إبراهيم «عندما تفتش في أسرار عظمة كثير من الدول، واستقلالها، تجد من ضمنها تمسّكها بلغتها التي هي عنوان هويتها: ألمانيا مثلا منعت كتابة يافطاتها أو أسماء المحال فيها بغير الألمانية. وذكرت الأستاذة نبوية موسى، المُربّية الشهيرة، أن أوّل ما فعله الإنجليز عندما دخلوا مصر، أن جعلوا تدريس قواعد اللغة العربية باللغة الإنجليزية، فتحوّلت "كان وأخواتها" بقدرة قادر إلى "Can & her sisters"»؛ وكذلك في بلادنا، كما قال الشيخ محمد الأمين بن الشيخ بن مزيد، «جاءت الصليبية تحارب اللغة العربية وتحارب حروفها وكانت فرنسا وعملاؤها في المقدمة، فهم يعلمون أن (اللغة) ليست كائنا محايدا وليست مجرد وسيلة تعبير وأداة تفاهم فقط، وإنما هي إحدى معابر الغزو الفكري التي تحمل عقائد أهلها وأخلاقهم وثقافتهم، فحاربوا اللغة العربية وحاربوا حروفها، وسعوا إلى التمكين للغة الفرنسية». نحن لغتنا، لغتنا هويتنا، نحن نحن ما دمنا نتكلم لغتنا. العربية حارس هويتنا، وهيمنة اللغة الأجنبية هي أكبر تحد يهددها.
يلاحظ اليوم تراجع مخيف للغة العربية.
- في مؤسسات الدولة
هناك تقصير من مؤسسات الدولة في الاهتمام بلغتنا العربية الأصيلة، حيث يتم تحرير معظم النصوص باللغة الفرنسية، على الرغم من قرار الدستور. النصوص التي تقدم للبرلمان تضج بالأخطاء الفنية واللغوية وأخطاء الصياغة والإملاء والنحو، رغم إجازتها من طرف إدارة التشريع والترجمة؛ وهو ما جعل هذه النصوص غير دستورية، ما دامت لا تراعي سلامة لغة الدستور. نذكر على سبيل المثال مشروع قانون مدونة الطيران المدني الذي أقره البرلمان سنة 2018، دون أن يصححه. قال عنه رئيس مجلس اللسان العربي بموريتانيا، النائب الخليل النحوي، أن «الأخطاء فيه كثيرة ومنها أخطاء نحوية وأخرى لغوية وأخطاء في التركيب وحتى الترجمة، وأنه قام بإحصاء 16 خطأ لغويا في صفحة واحدة!» فجل النصوص العربية الحكومية نصوص مترجمة حرفيا عن اللغة الفرنسية، لا تراعي التراكيب العربية ولا أساليب الفصحى وتُفقد اللغة العربية نقاءها وصفاءها، فينتج عن ترجمة النصوص نص أجنبي بحروف عربية. عندما تجيز الإدارة العامة للتشريع والترجمة نصا حكوميا مترجما إلى العربية، فهي لا تراعي سلامة اللغة العربية في الترجمة، وإنما مطابقتها حرفيا للغة الأجنبية. ولو كان لأمر يتعلق بتعابير ومعاني لا مقابل لها في العربية لكان للأمر وجه من القبول، ولكن الواقع أنه الجهل باللغة العربية، والاستهانة بها، وضعف تكوين المترجم إليها أو انعدامه. وإذا أردنا إعادة هذه النصوص إلى الأسلوب العربي الصحيح، فسيكون ذلك بمثابة كتابة نص جديد، ولا يخفى ما قد يترتب على ذلك. لكن المسؤولية الأدبية والأخلاقية والدستورية تظل تطالب إدارة التشريع والترجمة بأن تقف بالمرصاد لما تراه من هذه الترجمات مخلا بسلامة لغة الدستور واستبداله بالأسلوب العربي السليم.
إن المسؤولين في الدوائر الحكومية لا هم لهم إلا إظهار درايتهم باللغة الأجنبية لمن هم حولهم، ويلجأون في الغالب إلى تفسير ما ينطقون به بالعربية بكلمات أجنبية، وذلك لترسيخ الكلام في لب السامع ومنع الالتباس، وكأن اللغة العربية أضحت لغة الغموض والالتباس؛ وكأن العبارات والأفكار العربية لا يمكن فهم المعاني المقصودة بها! وصلت الحال بكثيرين من المسؤولين الحكوميين إلى عدم الالتفات بالكلية إلى العربية. ما زلنا نتذكر ذلك الخطاب لوزير التنمية الريفية في إحدى الحكومات السابقة، الذي كان يلقي خطابه على أمواج التلفزة الوطنية ويردد عبارة "بظور محسنة" (أكرمكم الله) بدل "بذور محسنة"! هذا يوضح بالمثال الكاشف والدليل الواضح الحال التي وصلت إليها الممارسات اللغوية للحكومة وزهدها في اللغة العربية.
أطالب برفع دعوى قضائية تستند إلى الدستور، ضد الحكومات السابقة لأن الدستور ينصّ على أن اللغة الرسمية في موريتانيا هي اللغة العربية، في حين أن تلك الحكومات لم تلتزم بذلك.
- في الكتب المدرسية
لا شك أن التعليم هو مفتاح تقدم الأمم، لأنه يزود الأجيال المتعاقبة بالمعرفة النظرية والعملية. والكتب المدرسية هي الوسيلة الأساسية لنقل رسالة التعليم وتكوين العقول المزودة بالتفكير الصحيح. تم تكليف المعهد التربوي الوطني بمهمة إنتاج الكتاب المدرسي وتوفيره مجانا للتلاميذ. حُصل على التمويلات اللازمة وطُبعت الكتب. لكنها لم توفر بالكمية المطلوبة في الأوساط المدرسية، في حين توجد بأعداد معتبرة في الأسواق وعلى جنبات الطريق، معروضة للبيع بأسعار مرتفعة. لكن الأدهى والأمر أن الكتب المدرسية فيها أخطاء الكثيرة، بما في ذلك الأخطاء العلمية المتعلقة بجوهر المواد أيا كانت، والأخطاء اللغوية والمطبعية. هذه الأخطاء المعيبة تؤثر على قدرات الطلاب في اللغة العربية. كم مرة حاولت مراجعة درس مع أحد أبنائي، فلم أستطع الاستعانة بكتابه المدرسي بسبب أخطائه الكثيرة...
هذه الأخطاء سببت فقدان الثقة في المناهج الدراسية وصار التلاميذ يعودون إلى المعلمين في كل صغيرة وكبيرة للتأكد من صحتها. وهذا يشكل عبئا إضافيا على الطلاب والمعلمين. يشير العديد من المعلمين إلى أن الأخطاء، التي لا يخلو منها أي كتاب مدرسي يصدره المعهد التربوي، أحدثت اضطرابًا في العملية التعليمية يلقي بظلاله على جميع أجزائها، وشكلت عبئًا على المعلم وعقبة أمام أداء دوره. وبدلاً من أن يكون الكتاب المدرسي وسيلة أساسية في العملية التعليمية، فقد تحول إلى عائق أمامها. صار المعلم يواجه صعوبة في كيفية إقناع الطلاب بأن الكتاب المدرسي خاطئ وأن المعلومات التي يقدم إليهم غير صحيحة. وصار التلاميذ يشعرون بالإحباط لأن الكتاب يزودهم بمعلومات، ويزودهم المعلم بأخرى مناقضة. وأصيبوا بالارتباك بين الثقة فيما يقدمه المعلم لهم وما يقدمه لهم الكتاب.
على المعهد التربوي الوطني أن يسحب الكتب المدرسية ويصحح أخطاءها ويعيد طباعتها ويسهر على أن تكون الطبعات القادمة خالية من الأخطاء. طالما أن الكتاب المدرسي يعاني من الأخطاء، فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تحقيق النتيجة المرجوة من العملية التعليمية.
- في الشارع
إن من يتجول في الشوارع والطرقات والمصالح والمرافق العامة في مدننا، يلاحظ أخطاء كثيرة على اللافتات ولوحات التعليمات والإرشادات وفي الإعلانات. ما يستدعي وجود هيئة معينة تتابع وتدقق الأخطاء الإملائية الموجودة على اللافتات العامة والإعلانية في الشوارع والاتصال بأصحابها لإبلاغهم عن الخطأ وإلزامهم بتصحيحه.
كيف نكتب إعلانات نريد بها جذب الأعين وكسب الزبائن وإقناعهم بشراء السلعة المُعلَن عنها، ولا نتحاشى الأخطاء الإملائية البشعة والمنفرة، بالاستعانة بمدقق إملائي مقابل مبلغ زهيد؟ المشكلة الكبرى ليست في وجود الخطأ وانتشاره في كل مكان، لكن في استمرار مشاهدته كل يوم وتعود المرء عليه. وقد يؤدي ذلك إلى صعوبة إحلال الصواب فيه مرة أخرى. فهل من رقيب أو جهة تحاسب هؤلاء الذين يدمرون اللغة العربية وينشرون إعلانات تمتلئ بالأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية المسيئة إلى لغة القرآن الكريم؟ النمط الثاني من قلّة الاهتمام والاعتناء باللغة العربية والازدراء بها، هو أن جل أصحاب المحال لا يكتبون لافتاتهم وأسماء محلاتهم إلا بالفرنسية، وفي الأغلب الأعم لا يخطؤون كتابة حروفها.
- في الصحافة
لكل مهنة أخطاؤها، ولكن تبقى أخطاء الإعلاميين هي الأفدح، حيث تتعامل الصحافة مع اللغة باعتبارها منشورة للجميع. أصبحت الركاكة اللغوية والأخطاء الإملائية والنحوية ظاهرة في كثير من وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة وهي في تزايد. ويرجع ذلك إلى المستوى المتدني للتعليم الجامعي، إذ إن الجامعة أصبحت "مفقسة" للصحفيين غير المؤهلين. وأصحاب الصحف والمواقع يتسابقون في اكتتابهم، غير عابئين بعدم تأهيلهم، ما داموا يوفرون يدا عاملة رخيصة. ومع شيوع استخدام لغة "العربسية"، وهي الكتابة التي تخلط بين العربية والفرنسية، كثرت الأخطاء اللغوية في الإعلام وتكررت وامتلأت الصحافة بالأخطاء الجسيمة. يقول د. محمد المختار ولد اباه، رئيس جامعة شنقيط العصرية، «إن المطلوب من الإعلام هو أن يعي دوره وأن يقدر مسؤوليته الثقافية، بالحد من الأخطاء والاجتهاد في تحسين أساليبه اللغوية، وبلورة نموذج يجمع بين البساطة في التعبير واحترام القواعد الأساسية. ولابد من تضافر جهود الدوائر الحكومية المسؤولة عن الإعلام الرسمي، مع فعاليات الإعلام الخاص الذي أصبح مجاله يتسع يوما بعد يوم.»
إن انتشار الأخطاء اللغوية في الصحافة يوجب على الدولة أن تجعل السلامة اللغوية شرطا من شروط الاستفادة من دعم صندوق الدعم العمومي للصحافة الخاصة الموريتانية وأن تقر، ضمن برامج الصندوق، تنظيم دورات تعليمية في مجالات اللغة العربية واستخدام الحاسوب في التدقيق الإملائي واستحداث خدمة تفاعلية للمستفيدين تقدم نماذج من الأخطاء اللغوية الشائعة في الصحافة، كما تشرك روادها في تزويدها بما يجدونه من أخطاء في الصحف أو القنوات. ولإنجاز ذلك، لابد من إعادة تشكيل لجنة تسيير وتوزيع الصندوق وجعل مجلس اللسان العربي الموريتاني عضوا استحقاقيا فيها وإضافة أعضاء خبراء في مجال الحوسبة.
إن لغة الضاد تستنجد بنا. نحتاج إلى وقفة ضميرية تاريخية شجاعة نواجه بها مظاهر تردي وتراجع اللغة، نحتاج إلى قانون يحمي العربية في الشارع وفي الدوائر الحكومية، وفي الكتب المدرسية، قانون يحميها في الصحافة وفي السوشيال ميديا، قانون يكفّ أيدي النصّابين عن نصب الفاعل وجر المفعول به ورفع المجرور على الصفحات الرسمية للدولة وعلى اللافتات الإعلانية في الشارع؛ قانون يلزم الوزارات باكتتاب مدققين لغويين لتصحيح الأخطاء الإملائية والطباعية، والنحوية، والإعرابية والتركيبية في النصوص الرسمية، مدققين لغويين يرفعون الأخطاء العديدة، التي قلما يسلم منها أي نص، كالتصحيف والإسقاط والتكرار وتبادل الأحرف أو الجمل أو الكلمات...