الازدواجية الأدبية وحوار اللغات

الازدواجية الأدبية وحوار اللغات

 

 

أتناول معكم موضوع "الازدواجية الأدبية وحوار اللغات" لأنني اعتدت على كتابة رواياتي باللغة الفرنسية قبل أن أنقٌلها بنفسي إلى اللغة العربية.

 

ومع أن العمل الفني لا يتجلى مرتين، كما يقول  Walter Benjamin1، إلا أن الكتابة المزدوجة، التي تمكن المؤلف من ترجمة نصوصه بنفسه، تحيط النص الأدبي بهالة مضاعفة من المعاني تجعله يتجلى في إشراقة بعد أخرى، كما تعطي عمليَّة التَّلقي وجوهًا كثيرة ومتنوعة.

 

يقول Ramier Grutman في تعريفه للازدواجية الأدبية: « ليس الكاتب المزدوج من يمتلك ناصية لغتين، بل هو ذالك الذي يمارس الكتابة بلغتين  اختارهما لنفسه أو فرضتهما عليه الظروف.»2. ويعرف Popovic ازدواجية الكتابة بأنها ترجمةٌ يقوم بها مؤلف النص المصدر3

 

إن الكتابة المزدوجة، كما أَنتهجها، هي كتابة بلغة أجنبية ثانية، الفرنسية، ثم إعادة كتابة النص بالعربية، اللغة الأم، لغة الكتابة الثانية واللغة الأجنبية الأولى، بحسب نظرية دريدا الذي يرى أن لغة الأم هي أولى اللغات الأجنبية التي نتعلمها. يقول دريدا أن أٌحادية اللغة ضرب من المستحيل. 4 فكل لغة لها ما يسبقها، وهو الأصل المشترك لكل اللغات، الذي يقوم كل شخص بترجمته ليستمد منه اللغة التي يعبر بها عن فكره. فالترجمة إذا تلازم دوما الفعل اللغوي، وهي دائما عملية سابقة، وليست لاحقة، بخلاف وجهة النظر الشائعة. هكذا نكون في غُربة داخل لغتنا الأم.

 

هذه الغيرية في منظومة اللغات هي التي تحاول الكتابة المزدوجة تجاوزها، وذالك من خلال تيارات عدة تلتقي في هدف واحد يتمثل في استكناه سر تعدد اللغات وكسر الحواجز التي تفصلها. نذكر من بين هذه التيارات:

 

1)  الاتجاه الذي يعدد اللغات ضمن النص الواحد. ومن أبرز الأمثلة  لهذا النوع من الكتابة المزدوجة رواية جويس " Finnegans Wake" التي احتوت على ما لا يقل عن سبعين لغة تمثل العالم بأسره.

 

2)  الازدواجية الأدبية. وتعني الكتابة بلغتين، ولكن ليس بالضرورة للنص الواحد. وقد يغير الكاتب لغته حسب الجنس الأدبي لنصه. نجد في الجزائر الكثير من الكتاب المزدوجين. ونذكر من بينهم على سبيل المثال رشيد بوجدرة وأمين الزاوي وإنعام بيوض.

 

-           بدأ رشيد بوجدرة الكتابة باللغة الفرنسية في أواخر ستينيات القرن المنصرم٬ بهدف تجاوز عقبتين تتمثلان في « محدودية المقروئية باللغة العربية في بداية السبعينيات»٬ وفي «الرقابة الاجتماعية والسياسية القوية آنذاك»5٬ بحسب تعبيره٬ ثم انتقل إلى الكتابة باللغة العربية٬ بعد انتهاء أجل العقد الذي يربطه مع دار نشر فرنسية. ويرى بوجدرة أن انتقاله إلى الكتابة باللغة العربية يمثل « عودة إلى الجذور.»

 

-           أما أمين الزاوي فهو يقول أن العربية بوابته للشرق، والفرنسية بوابته لما بقي من العالم في الغرب والشمال والجنوب٬ وأنه يشعر بالتوازن حين يكتب باللغتين العربية والفرنسية، تماما كالطائر المحلق بجناحين. إلا أنه يعبر عن خوفه من القارئ العربي فيقول: « في كل مرة أكتب فيها رواية بالعربية، يخيفني القارئ العربي والقارئ بالعربية.. إنه قارئ يخلط ما بين الأدب بوصفه نتاجا ينتمي للمخيال والتحليق والفانتازيا، والكتب الفقهية الشرعية الباردة التي تنتمي إلى باب الممنوع والمسموح. »6 ويضيف أن الناشر بالعربية لم يستطع توصيل رواياته بالعربية إلى القارئ في اللغات الأجنبية.

 

-           وفي ما يخص الروائية والشاعرة إنعام بيوض، فقد كتبت الشعر في مراحلها الأولى  باللغة العربية لكنها اليوم صارت تكتبه باللغة الفرنسية. أما الرواية فيبدو أنها تخصها بالكتابة العربية، بخلاف ياسمينة خضرة الذي يرى أن « العربية وحدها لغة الشعر بينما الفرنسية لغة الرواية. »

 

  3( المؤلف يترجم نصه بنفسه، فيكون المترجم هو مؤلف النص الأصلي. وقد تتعلق هذه الترجمة بجميع نصوص المؤلف أو بعضها أو حتى ببعض المقاطع من النص الواحد. هذا النوع من الترجمة قد يتم في وقت وجيز بعد إكمال الأصل أو حتى خلال انجازه، فتتقدم الترجمة بالموازاة مع النص الأصلي، ويؤثر كل منهما على الأخر.  وقد يترجم المؤلف نصه بعد إصداره، أو يصدر الترجمة قبل الأصل، فتكون مرجعا لإعادة كتابته.

 

هذه الحالة الأخيرة جرت على روايتي La Mecque païenne  التي نقلتها إلى العربية وصدرت هذه الترجمة سنة 2005  بالرغم من أن الأصل الفرنسي لم يصدر حتى الآن. لكن صدور النص العربي قبل أصله أعطاني الفرصة لمراجعة الأصل على ضوء ترجمته، فأنتجت نصا ثالثا هو الآن في طريقه إلى النشر.

 

يقول Borges "ليس ثمة نص جيد يَظهر ثابتا لا يقبَل التغيّر، ونهائيا وقطعيا إن نحن تعاطيناه عددا كافيا من المرات ".

 

إن ازدواجية الكتابة تمثل دعوة إلى الإبحار بين اللغات بهدف إدراك أصلها المشترك، وهو اللغة الصافية، النقية، الخالصة.

 

 

______________

 

1.  في رسالته "الوجيز في تاريخ فن التصوير" يقول والتير بنيامين أن العمل الفني لا  يتجلى مرتين لأنه مرتبط بمكان وزمان محددين. ويعرف التجلي بأنه ظهور البعيد مهما قرب.

2. Grutman, Ramier. «Bilinguisme. » Vocabulaire des études francophones. Les concepts de base. Dir. Michel Beniamino et Lise Gauvin. Limoges : Presses Universitaires de Limoges, 2005. 29.

3. Popovic, Anton. “Aspects of metatext”. Canadian Review of Comparative Literature 3, 1976, p. 225-235.

4. Derrida, Jacques. Le Monolinguisme de l’autre ou la prothèse d’origine. Paris, Galilée, 1996.

5. هسبيريس 17 Mai 2013

6. الشرق الأوسط٬ العدد ٬12612 9 يونيو 2013