أسطورة الأم

أسطورة الأم

 

كان ينتظر منذ ساعتين؛ لحظة تكاد تكون مستحيلة الإدراك في أبدية الزمن السحيق، لكنه انتظار طويل في نفس الأب الذي ينتظر بفارغ الصبر مولوده الأول.. كل الوسائل التي يستخدمها مركز التكاثر من أجل تهدئة الحرقة وتلهف الآباء للأبناء لم تفلح في تهدئة أعصابه الهائجة، على الرغم من أنها صممت على أساس معرفة دقيقة بنفسية الآباء، فهي تمثل نوعا من الولادة بدون مخاض أو بدون ألم لصالح الآباء..

 

كان جالسا على أريكة متحركة تدور به من ركن لآخر في قاعة الانتظار، لكيلا يتعبه اللف والدوران؛ ذلك أن رأفة الأب الحنون تجعله في اضطراب ودوران حتى يرى المولود النور.. في بداية الانتظار قدم له الأندرويد المضيف سيجارة صنعت خصيصا لهذا النوع من المناسبات، تتولد من رمادها، كطائر الفنيق، كلما أشعلت انخفضت فيها نسبة القطران والنيكوتين، دون أن ينقص ذلك من نكهة التبغ، ما يمكن الأب أن إشباع رغبته دون أن يتضرر بمخلفات التدخين..

 

كان يدخن سيجارته الأبدية ويدور جيئة وذهابا على أريكته المتحركة، فيما كانت مقاطع الفيديو تتعاقب على شاشات نظاراته، تشرح كيفية التعامل مع المواليد الجدد... خطرت بباله ابتسامة الأندرويد الذي واكبه منذ قدومه: «الابتسامة ألفة ورحمة وحنان، إنها وسيلة الجسم الآخر للتقبل والإغراء.. لكن ابتسامته هو تزيده غرابة وتعيد العاطفة والرغبة في الجسم الآخر إلى أصلهما المِيتابَشَرى: تبدأ بارتخاء الشفتين وما تلبث حتى تشمل صفحة الوجه كلها، مسفرة عن ثغر صاف منحوت، ينبعث من أعماق حنجرته نفَس ورنين عجيب، كأنه الصياح المقدس الذي يطلقه رجال أَرْكَادْيَا في مسابقات الجمال...» رجع انتباهه إلى المشاهد المتدفقة عبر شاشات نظاراته وعاد لواقعه كأب ينتظر بفارغ الصبر مولوده.. تذكر ظروف الولادة في الزمن الغابر، كما تحكيها "أسطورة الأم" التي تُحمّل في ذاكرة كل رجل عند ولادته:

 

«كانت الأم في يومها الثاني من آلام الولادة.. عند كل طلق تتأكد أن الفرج قريب، وأن المولود سيقبل أخيرا القدوم إلى هذا العالم والخروج من بطنها المنتفخ.. كانت تحسه يتحرك، حتى إنه يخيل إليها أنه يلعب.. كانت متأكدة أن وقت ميلاده قد حان، لكنها لم تكن تفهم لماذا يؤجل قدومه كل مرة.. النسوة يفسرن ذلك كل حسب تجربتها ووجهة نظرها: "مولودك لا يريد القدوم لأنك اشتهيت شيئا ولم تحصلي عليه، صارحينا برغبتك!" لم تكن تجيب على أسئلتهن ولم يكن يصدر عنها إلا الصياح والصرخات من آلام الطلق.. مع البحث عن سبب تأخر الولادة عثرت إحداهن على اللغز، قالت: "نعم، أعرف ما تشتهيه! مر بنا يوما حاج وصف لنا غروبا للشمس رائعا، شاهده من فوق جبل سيناء.. ومدة حملها كانت دائما تشتهي أن ترى هذا المنظر العجيب!" الطفل الذي كان سيولد من حين لآخر، لما سمع الخبر، قرر أن يؤجل موعد ولادته حتى يعاين المشهد من داخل بطن أمه، فوق جبل سيناء.. "حقا، اعترفت الأم، أتذكر بدقة حكاية ذلك الحاج. وما زلت أشتهي أن أرى ذلك المشهد الأخاذ!" تصارخت النسوة: "الله في عوننا! ما أبعد مصر! إذا لم تلد الأم بعد ست ساعات فسيموت الجنين بدون شك!" أُرسل على جناح السرعة إلى مكتب الشعب المصري بحثا عن التأشيرة.. حُصل عليها بسرعة بفضل عون القنصل الذي كانت أمه قابلة؛ لكن بقي الأصعب وهو تنظيم رحلة طويلة في هذا الوقت الوجيز.. استشاروا وكيل السفريات.. جاء جوابه سريعا ونهائيا: "شركة طيران عال-مصر وحدها هي التي يمكن أن تنظم رحلة كهذه.. عال-مصر هي شركة الطيران التي اندمجت فيها شركتا الخطوط الجوية المصرية وإل عال بعد شرائهما من ظرف الملياردير الأمريكي سَامْ تَرْنيرْ.. هكذا استؤجرت طائرة من عال-مصر وأقلعت عند الساعة الرابعة وخمس وعشرين دقيقة..

 

«أثناء تحليق الطائرة، قبيل حل الأحزمة والاستواء في الجو، خرج من مؤخرة الطائرة رجل قصير القامة، كث اللحية، عظيم الهامة، شديد الدمامة، كان يسمك بين يديه كتابا يدعي أنه يدس فيه مسدسا، كما في أفلام اسْبَاڨيتي وَسْتَرْن.. من أين جاء هذا الرجل؟ ربما جاء من مخزن الأمتعة، قد يكون اندس فيه قبل إقلاع الطائرة.. لا يهم! إنه هنا، ككتابه وكالمسدس في كتابه! "حذار! – قال الملتحي العظيم الهامة – هذا اختطاف! لا يتحرك أحد! هذا مطلبي: أريد أن أحل محل القابلة! أعطيكم فرصة ساعة زمنية، وإن رفضتم فسأفجر الطائرة!" لبث الركاب ساعة في صخب وتشاجر، والملتحي العظيم الهامة يردهم إلى الصواب في كل لحظة، مهددا بمسدسه المخبأ في كتابه: "اسكتوا! قرروا بسرعة قبل نفاد صبري!"

 

«بعد ساعة قرروا أن ينصاعوا للملتحي العظيم الهامة.. وبفضل فارق التوقيت هبطت الطائرة على جبل سيناء ربع ساعة قبل غروب الشمس.. حظي الطفل وأمه بأروع مشهد غروب شمس في العالم.. وولد الطفل بمساعدة الملتحي العظيم الهامة، مباشرة بعد غروب الشمس في رمال الصحراء.. »

لم يعد الأطفال اليوم يحتاجون لأم ولا أب كي يولدوا، فتكاثر الجنس البشري أصبح موكولا إلى التقنيات الحديثة.. تغير التناسل البشري تغيرا جذريا بموجب التحولات المذهلة التي قلبت رأسا على عقب طرق التكاثر البشري ووسائله.. بعد ما جاءت الاكتشافات التي مكنت من تحديد جنس الجنين البشري مكملة وسائل التخصيب الأنبوبي، أصبح بإمكان كل شخص أن ينتقي جنس مولوده.. كان الناس يلجؤون للتخصيب الأنبوبي ليختاروا جنس الأطفال.. وبما أن أكثر الأزواج كانوا يفضلون الذكران، ظهر خلل في التوازن بين الذكور والإناث..

 

احتجت النساء على هذه الوضعية التي أصبحت تهدد الجنس الآخر.. طالبن بتقسيم عادل للأجنة المحضرة للزرع بين الجنسين.. تحولت حركة تحرير المرأة إلى حركة دفاع عن التخصيب الأنثوي..

كان رسم الانتساب لمنظمات الدفاع عن التخصيب الأنثوي يتمثل في الذهاب إلى مراكز التخصيب الأنبوبي وزراعة جنين أنثوي في رحم المنتسبة، مما جعل كل المنتسبات حوامل.

 

بعد سنوات معدودة من التعبئة لصالح الأنوثة، انقلب التوازن القديم وأصبح عنصر الذكور مهددا.. نظم الرجال بدورهم ردهم؛ قرروا استئجار أرحام الأمهات: في تلك الفترة كان يمكن العثور بسهولة على خائنات للقضية النسوية مستعدات لتقبل الجنين الذكر حتى ولادته.. هكذا تمكن الرجال من تكوين شبكة من المستأجرات لأرحامهن.. شكلت النساء وحدات استخباراتية من أجل فضح كل من خانت قضيتهن؛ عندما يكتشفن خيانة يقمن بإجهاض الخائنة وتعقيمها.. وكلما أجهضن مستأجرة يقوم الرجال بإجهاض وتعقيم مماثل.. هكذا تحول صراع الجنسين إلى حرب أهلية مدمرة..

 

بعد فترة طويلة ومن أجل إنهاء هذه الحرب القاتلة، قام الرجال والنساء بإعادة تنظيم علاقات الجنسين ووضعوا قواعد جديدة للإنجاب.. أعيد توازن الجنسين وأعلنت حقوق الرجل والمرأة وألغيت الأسرة.. حُرم اختلاط الجنسين ووضعت ضوابط جديدة تحدد طرق تعايش الرجال والنساء في مجتمعين منفصلين، لكل حقوقه وواجباته.. عهد بإنجاب الذكور للرجال والإناث للنساء، لكل من الجنسين حصته السنوية من الولادات، على أن يتم تشكيل فرق مختلطة تشرف على مراكز الإنجاب.. واستحدث إطار لخدمة مختلطة من أجل الحفاظ على تماسك المجتمعين وضمان السلام.. أصبح لزاما على كل رجل أو امرأة في سن البلوغ الانخراط مدة سنتين في مجموعات مختلطة من المجندين لتالك الخدمة.. تقوم الخدمة المختلطة على الاشتراك في الحياة الجنسية والتسلية والعمل مع المجندين من الجنس الآخر.. الذين يرفضون هذه الحياة الجنسية المختلطة يمثلون أمام المحاكم ويحكم عليهم بعقوبات قاسية..

 

بدأ النساء يرجعن إلى نظام الأُوسْتْرُوسْ نتيجة فصلهن عن الرجال.. تغيرات حياتهن اليومية وتلازمت فترة الوِداق مع فترة الخدمة المختلطة.. أول مظاهر الرجوع إلى نظام الأُوسْتْرُوسْ كان انقطاع الإباضة عن بعض النساء.. ثم عمت هذه الظاهرة لتشمل كل النساء؛ لم تعد تستأنف الإباضة إلا في فترة الخدمة المختلطة، مع الاتصال بالرجال.. حاولن تصحيح هذه الوضعية بفتح دور للإباضة.. كان يجب على المترشحات للإباضة أن يسجلن أنفسهن في تلك الدور شهرا قبل الموعد.. يبدأ تدريب الإباضة بتحضير دقيق هرموني وسيكولوجي ولا يشترك فيه إلا النساء المعدات للحمل، على أن يتم تخصيب البويضة بنفسها والاستغناء عن الحيوان المنوي للذكر.. ذلك هو التخصيب الذاتي الأنثوي الذي يمكن المرأة من إنجاب طفلة تكون استنساخا لها..

 

يبدأ تدريب الإباضة في أول ليلة من الدورة القمرية.. وتخضع النساء للمعالجة بهرمونات خنثوية طوال فترة التدريب التي تواكب الدورة القمرية.. على المدربات القدوم كل مساء لحضور رقصات يشهدها جمهور من النساء الحوامل ويشرف عليها أعضاء من دور الإباضة متنكرات في زي رجال.. تقوم تلك الرقصات على محاكاة وضعية جسم الرجل والمرأة في حالة الاتصال الجنسي وبطريقة تمكن المتدربات من التعرف عليها.. تصدر عن النساء الحوامل – اللواتي يكوِّن دائرة حول الراقصات دون أن يشاركن في الرقص – صرخات تحاكي مراحل الشبق.. عندما تنهي الرقصات ينفردن أزواجا ليقضين الليل كله معا.. قبل الاضطجاع تقول كل متدربة لزوجها المتنكرة في زي الرجال: "أريد أن أكون امرأة الرجل!" وتأخذها هذه كما كان يأخذ الرجل امرأته.. قبل الصباح تستيقظ المتدربات ويرين رفيقاتهن وقد خلعن ملابس التنكر ورجعن إلى الزي النسوي.. يلقين زي الرجال المخلوع في النار، ويعدن للمركز للتأكد من بدء الإباضة، ثم يتم التخصيب..

 

لم يتغير إنتاج المني عند الرجال ولا إفرازهم الهرموني.. لم يؤدي الفصل بين الجنسين إلى أي تغيير في طبيعتهم الجنسية والتناسلية.. العقبة الأساسية التي كانت يجب على الرجال الذين يريدون الإنجاب تخطيها هي وجود رحم اصطناعي شاغر.. إذا كان الرجال والنساء متساوين في نسب الإنجاب، فللنساء غبن يتمثل في قدرتهن على الحمل.. أما حمل الرجال فهو غير مضمون؛ الأمر الذي جعلهم يضطرون لاستئجار الأرحام الاصطناعية.. غير أن هذه كانت تتوفر بكميات محدودة، لأن صناعتها كانت تخضع لنسبة الإنجاب السنوي المخول للرجال.. كان يجب على الرجل الذي يريد الإنجاب أن ينتظر طويلا أو يجازف بالحمل.. انتظر الأب أربع سنوات قبل أن يتمكن من الحصول على رحم اصطناعي..

 

ها هو يجد نفسه اليوم منتظرا ولادة أبنه بتلهف.. كان لا يزال يدخن سيجارته الأبدية فوق أريكته المتحركة، من ركن لآخر في قاعة الانتظار، والأندرويد لم يظهر بعد.. ثم جاء بابتسامته الأَرْكَادِيَّة وقال:

- اتبعني، سأقودك إلى ابنك!

قفز الأب من فوق أريكته المتحركة دون أن يوقفها وخرج خلف الأندرويد، الذي بدا متجاهلا لهفته.. كان رجل مشتعلا شيبا ينتظرهما في قاعة الولادات.. ساعد الأب في إخراج ابنه من الرحم الاصطناعي وقطع سرته وغسله بماء استحمامه الأول..

- الآن، قال الرجل المشتعل شيبا، يمكنك تسمية ابنك وإذا كنت لم تختر بعد اسما، فلدينا بنك للأسماء يمكنك اختياره من بينها..

- لم اختر بعد!

قاده إلى قاعة الأسماء..

 - عليك أن تدخل في الحاسوب اسمك وتاريخ ميلاد ابنك ورقما أيا كان..

أعطى الأب اسمه وتاريخ ميلاد ابنه واختار الرقم سبعة، ثم ضغط على الزر المناسب.. أظلمت شاشة الحاسوب.. بقي وقتا طويلا بدون جواب، كما لو أن المعطيات أربكته.. ثم ظهر على الشاشة اسم من ثلاثة أحرف: آدم..

ليس الخروج من الرحم كل شيء.. كان لزاما على آدم أن يصير رجلا.. يضطلع الآخرون بحثه على ذلك وتذكيره دائما، لا بما يحب أن يكون ولكن بما يجب أن يكون: "كن رجلا!" كان الرجال يكررونها دائما لآدم.. في البداية لم يفهم ما يريدون.. ثم قرر أن يختار الحل الأسهل: » أن أكون رجلا يعني أن أفعل مثل الآخرين«.. تعود على اعتبار شخصيته نتيجة للتفاعل مع الآخرين وحاول أن لا يأخذها مأخذ الجد..

 

تتحدد هوية الرجال بالتميز عن النساء.. كان كل من الجنسين يعمل جاهدا على إبراز خصوصيته من أجل إثبات ذاته.. من أجل تجنب الاختلاط عمل الرجال والنساء على تنمية خصوصيات كل من الجنسين.. تتغذى النساء خصيصا بمواد مخلوطة بالهرمونات الأنثوية، وذلك من أجل إبراز أنوثتهن.. أما الرجال فكانوا يتغذون بمواد مخلوطة بالهرمونات الذكرية.. لكن هذا التفاني في إبراز خصوصيات كل جنس زاد من جاذبية الجنسين فيما بينهما، مما جعل الفصل بينهما أكثر صعوبة.. لكن، وبما أن التقنية أوكلت إليها مهمة التكاثر البشرى، أصبح الجنس عملية فارغة.. فبفقدان دافعه الأول، الذي هو التكاثر، صار الجنس منحرفا، أصبح خدعة، وشذوذا وزيغا، حتى ولو كان البعض يحاولون إبدال فطرة التكاثر بأخلاقيات اللذة.. بما أن الجنس صار وظيفة بلا هدف، أصبحت اللذة مسألة تربية.. أسس كل من الرجال والنساء مخيالا جديدا للذة يستبعد الجنس الآخر.. وفي كل من المجتمعين أصبح التغزل بالجنس الآخر محظورا.. أعيد النظر في الشبق والخلاعة: لم يعد تبرج الرجال مثيرا إلا لغلمة الرجال.. كما لم يعد جسد المرأة يثير إلا غلمة النساء؛ فأصبحت النرجسية الجنسية واللذة الفطرية تشبعان من هذا المخيال الجنسي الموجه..

 

هذه الفوارق لم تغير التكامل القديم بين الجنسين.. هذا التكامل هو الذي أرغم الجنسين على تنظيم تعايشهما لضمان المصلحة المشتركة.. إن تعايش الجنسين مشروط بوجود لغة مشتركة، لكن كل جنس كان يطور لغته في اتجاه خاص يختلف من جنس لآخر.. هكذا اختفي الاسم المذكر تدريجيا من لغة النساء، كما اختفت نون النسوة وتاء التأنيث من لغة الرجال.. وللحفاظ على تفاهم الجنسين، دأبا على تنظيم مسابقات للخطابة يفوز بجوائزها من تذوق خطابه أكثر عدد من الجنس الآخر.. لكن المؤسسة الأهم في تعايش الجنسين كانت الخدمة المختلطة..

 

كانت مَانِكي مضطربة هذه الليلة لأنها ربما قد تعيش لأول مرة في حياتها بين أفراد مجموعة مختلطة.. لقد تلقت هذا الصباح استدعاءها من أجل امتحان الكفاءة، تمهيدا للخدمة المختلطة.. «لا داعي للقلق!» هكذا كانت تطمئن نفسها.. كانت تعلم أن فرصها في النجاح قليلة.. يمثل الرجال بالنسبة لها الوجه الآخر للبشرية.. كانوا يثيرون فضولها، لكنها لم تربطهم بحياتها، لم تعرفهم حتى الآن إلا من وراء بزاتهم المضادة للأشعة، عندما كانت تأتي لصيانة برامج تسيير المحطات النووية.. الانطباع الذي احتفظت به هو أن الرجال كائنات بعيدة المنال، ليست لهم عاطفة، وأن النساء كن على صواب عندما اخترن القطيعة... في النهاية نامت مستغرقة في تأملاتها. غدا في الصباح الباكر يجب أن تذهب إلى مركز امتحان الكفاءة. كان أصعب اختبارات الخدمة المختلطة يتمثل في تسلق جسم فولاذي منحوت على شكل عضو ذكر.. لما وصلت إلى قاعدة التمثال تقدم إليها حارسان، ضرباها بالسياط وأمراها بخلع ثيابها وبالتسلق.. حاولت الصعود، لكن رجليها ويديها لا تحيطان بالجسم الأملس، الغليظ، المزلق.. حاولت الصعود مستعينة برجليها ويديها.. كلما حاولت الصعود انزلقت... هبت من نومها تتصبب عرقا، كان كابوسا مرعبا...

 

في الصباح وصلت مَانِكي إلى مركز امتحان الكفاءة، بناية عالية على شكل فندق.. البوابات تفتح ببطاقة ممغنطة حصلت عليها مع رسالة استدعائها.. توجهت نحو باب ممر طويل بين جدران مغطاة بالمرايا، عكست لها صورا كثيرة.. لم تلق حتى الآن إلا برودة الزجاج والفولاذ، لم تسمع أي صوت، ولم تر أي كائن بشري.. عند نهاية الممر أخذت المصعد.. صارت دقات قلبها تتسارع مع الصعود.. توقف المصعد وانفتح على ممشى يؤدي إلى باب واحد يحمل الرقم نفسه المدون على بطاقتها.. توجهت نحو الباب، أدخلت بطاقتها، انفتح الباب ودخلت ثم انغلق من ورائها..

 

كان آدم مفتونا بالنساء.. كان يرجع فوارقهن الفيزيولوجية مع الرجال إلى العواقب التي نتجت عن أول كارثة نووية.. قبل تلك الكارثة، لم تكن البشرية مكونة إلا من الرجال، لكن بعد تعرض بعض هؤلاء الرجال إلى إشعاعات نووية حدثت سلسلة من التحولات الوراثية حولت أولئك الرجال نساء.. كان ينتظر بفارغ الصبر استدعاءه للخدمة المختلطة واليوم فيما كان متوجها إلى مركز امتحان الكفاءة، كان مهموما، متيبس الحلق، ندي اليدين، كما لو كان يتجه إلى قدر مجهول.. عندما فتح الباب الذي يحمل الرقم المدون على بطاقة دعوته رأى تلك المرأة التي لم يميز ملامح وجهها في نور الغرفة الخافت.. عندما انغلق الباب وراءه بقي متسمرا في مكانه، حذرا، كما لو كان يواجه خطرا.. لم يحضّر قدومه، لكنه كان يعلم أنه جيد عند الارتجال؛ لن يقبل لنفسه إعداد مغازلته ما لم يتعرف على المرأة التي سيجدها أمامه.. ثم إنه يجب أن يكون المرء فنانا، يجب أن يكون إعلان حبه مناسبا لرفيقته كفستانها المسائي، حتى ولو كان ذلك منافيا لقواعد الخدمة المختلطة..

 

لقد طالع في صفحات ملف الاستدعاء بعض الغزليات المعلبة، ما بين رقيقة ومتوقدة ورومانسية، لكنه يراها كلها سخيفة، مثيرة للضحك؛ في الوقت الذي أسر في نفسه حسدا للنساء اللواتي لا يطلب منهن إلا الجواب بالصمت أو بنظرة موافقة.. كل النماذج المقترحة كانت مصوغة بأسلوب المجاز، تصف النساء في صور مأخوذة من الطبيعة، كما لو أن تلك الصور هي وحدها التي تناسب التغزل بالنساء.. قد يكون للنساء حس مرهف بالطبيعة.. يتمنين أن يكنّ زهورا، كواكب، نهارا، ليلا، حياة أو موتا.. قد يفسر هذا الميول بالحنين إلى الطبيعة التي انقرضت..

 

بالأمس كان قد ذهب لمشاهدة أحد المعارض الخاصة برسوم مظاهر الطبيعة، التي حلت محل الحدائق العامة المنقرضة، يزورها الناس بحثا عن مشاهد الطبيعة المفقودة.. كانت تلك المرة الأولى التي يزور فيها مكانا كهذا.. باستحضار الطبيعة، كان يبحث عن المرأة، ينظر إلى لوحات المظاهر الطبيعية كما لو أنها تمثل صورا مختلفة للمرأة التي سيكتشفها.. ثمة لوحة أثارت اهتمامه بصورة خاصة، غابة من جوز الهند على شاطئ، ومن بين الجوز انفردت شجرة عرت جذورها الأمواج.. كانت تميل جهة البحر، مرتسمة في السماء.. حضرت ذهنه هذه اللوحة أمام هذه المرأة التي ترغمه قوانين الخدمة المختلطة على مغازلتها:

- أنتِ كشجرة جوز على الشاطئ عرت جذورها الأمواج واستجابت لنداء البحر، مرتسمة في السماء، فصارت أجمل باقة ورد!

رمشت عينا مَانِكي بوتيرة متسارعة.. صار الليل والنهار يتعاقبان ما بين ارتفاع الجفون وانخفاضها.. لقد أربكتها هذه المغازلة.. لم تكن من بين تلك التي اطلعت عليها في ملف الاستدعاء والتي حفظتها عن ظهر قلب.. لكنها كانت مغازلة جميلة، أجمل من كل تلك التي طالعتها.. سرت بسماعها.. لاحظ ترميش عينيها، بدت متأثرة.. «لعلي استعملت بعض العبارات الجارحة».. ما من شك أن تلك النظرات تعبير عن هروب أمام قدر محتوم.. تقدم وجلس بجانبها.. في البداية كان كل منهما يحدق في الآخر، ينظر إليه بحذر، وكل حواسه يقظة.. كل ينظر إلى الآخر كما لو كان خائفا.. ثم بدأت مَانِكي تحول نظرها عنه ولا تعيده إلا في خجل.. عفويا قرر كل منهما القفز لتحسس جسد الآخر.. بدءا يتلامسان، كل يضع يده على موضع من جسد الآخر، ثم ينزعها بسرعة، كما لو كان يخشى أن يتفسخ جلد الآخر ويلتصق بيده.. بعد لحظات زال التوجس وأمنا الالتصاق.. لم تعد الأيدي تكفي وحدها، كان كل جسم يتشبث بالآخر...

 

كانت مَانِكي مستلقية في حوض الحمام، ثانية ركبتيها، تنظر إلى فخذيها البيضاوين الناعمتين.. ثم بدأت تفرج قليلا بينهما وتلصقهما في بطء وأناة.. عندما تفرج بينهما، يتحول الماء إلى قطرات تغطي كل مساحة تماس الفخذين.. وعندما تقارب بينهما تلتقي القطرات وتتشابك في خيوط مائية تتضافر وتتفكك على وتيرة التباعد والتماس: «هل تكون روابط الحب واهية مثل هذه الخيوط؟».. لم تكن تحيط بأبعاد التجربة التي عاشتها؛ كل ما تعلم هو أنها أدت طقوسا غريبة، لكنها إلزامية.. كانت تود لو تنتهي التجربة هنا، وتنجو من الخدمة المختلطة.. ربما كانت هذه التجربة مثيرة للفضول، لكن لها بعدا غريبا يخيف مَانِكي.. ممتحنو الكفاءة للخدمة المختلطة هم الذين سيحددون نتيجة هذه التجربة.. بعد قليل ستذهب مع آدم إلى البناية في الجانب الآخر من الشارع لمعرفة النتيجة النهائية..

 

بعد انتهائها من تسوية ملابسها وتصفيف شعرها، ذهبت لتجلس قرب آدم.. اقتربت منه طابعة قبلة على خده، قريبا من فمه.. عندما رفعت شفتيها لاحظ آدم في اندهاش أن خده لايزال متصلا بشفتي مَانِكي بواسطة رعابيل من جلد خده وجلد شفتي مَانِكي، خيوط من الجلد وأحمر الشفاه.. الرعابيل كانت متباينة الحجوم، لونها لون البشرة التي تخترقها أشعة الضوء في ظلام دامس.. عندما ابتسمت، انشطرت الأشلاء المتدلية من حافة ثغرها اليسرى، مخلفة رعابيلا تشبثت بها الأسنان التي ظهر بعضها..

 

أصبحت عينا آدم مجهرين.. لم يعد يرى الفضاء بين جدران الغرفة ولا السرير، الذي كانت مَانِكي تجلس عليه الآن، ولا قوام جسمها، ولا تقاسيم وجهها.. لم يكن يرى إلا الأشلاء بين شفاه مَانِكي وخده، الذي اختلطت معه في ضباب وردي.. هب فجأة محاولا كسر ذلك النسيج العنكبوتي المرعب.. أحدثت حركته تمزقات عديدة في الرعابيل الرقيقة التي تشققت، لكن بعضها صمد..

- لنخرج! قالها بنفاد صبر، كالمنخنق..

عندما وصل عبة الباب سقط بكل ثقله، ثم وقف، لكنه تعثر عند الخطوة الأولى وسقط من جديد.. فزعت مَانِكي، صاحت:

- ما بك؟ ماذا جرى لك؟ هل أنت بخير؟

لم يصدر عنه أي جواب.. ذُعرت.. كانت تخشى أن يموت الرجل، تخشى أن تتهم بتسميمه... ساعدته في دخول المصعد، كان يتشبث بها لئلا يسقط.. لقد فقد الإلمام بالأشياء وبالمكان وبالجاذبية، كل حواسه كانت مركزة على الرعابيل التي احتلت مجال إحساسه..

 

في الشارع، وبينما كانا ينتظران على الرصيف قبل الاجتياز، سقط آدم من بين يديها أمام سيارة كانت مسرعة، كبح السائق مُزَمِّرا وتوقفت السيارة محدثة أزيزا مدويا.. رجعت حواس آدم إلى الصواب بفضل الصدمة والصخب الذي رافقها.. رأى السيارات الأخرى، والبنايات من حوله.. عاد حسه إلى مجاله الطبيعي.. لم تعد هناك رعابيل، على الأقل لم يعد يراها، لكنه كان متأكدا من أن النسيج ما زال متماسكا، حتى ولو غاب عن البصر.. تيقن من أن الأجسام ليست منفصلة، كما تفصل الأشياء بالقدوم، وأن خيوطا خفية تشد بعضها إلى البعض، وأن الإنسانية وحدة خلاياها الأجسام، وأن الرعابيل ليست إلا خيوطا من نسيج هذه الشبكة الخفية التي تربط ما بين أجسام البشر.. لاحظت مَانِكي بارتياح خروج آدم من الوعكة ولم تعد تهمتم إلا بنتائج امتحان الكفاءة للخدمة المختلطة..

 

كان بانتظارهما شخص عند مدخل البناية.. ملامحه ملتبسة، يجمع بين شكل الرجل وشكل المرأة، أحد أولئك الرجال أو إحدى تلك النساء ممن عمل في الخدمة المخلطة حتى جمع خصائص الرجال والنساء..

- أنا خُنَاثَة، سنرى ما إذا كان لقاؤكما الأول مر بسلام!

 لم تكن مَانِكي ترفع عينيها عن خُنَاثَة، لم تر من قبل انسجاما بهذا التمام بين صفات متضادة: قصره وسمنه يعطيانه شكلا كاد يكون كرويا؛ يداه الناعمتان، الدقيقتان، لهما نعومة يدى المرأة، لكن فيهما أيضا خشونة الرجولة وقوتها.. تدحرجه يعكس كروية جسمه.. كان يبدو شديد القوة، متماسك البنية.. أخذ بطاقتي استدعاء آدم ومَانِكي وطلب منهما أن يتبعاه.. أدخلهما في غرفة ضيقة تبدو كما لو أنها مخصصة لمشاهدة أفلام الفيديو، بها مكبرات صوت كثيرة مثبته في الجدران.. ضغط على زر القراءة في أحد أجهزة الفيديو.. ظهرت صورة مَانِكي على الشاشة وهي وحدها في غرفة: كانت صامتة.. بدت مضطربة، قلقة.. تنفسها منتظم، تنبعث منه نسمة حياة رصدها التسجيل الدقيق؛ يتحرك مؤشر الصوت على وتيرته؛ أحيانا يتسارع إيقاع التنفس وتزداد كمية الهواء المتدفق في الرئتين، مرورا بالمنخرين ثم يقذف الهواء بسرعة كما لو كان النفَس يضيق.. عندئذ يتحرك مؤشر الصوت حتى يبلغ المساحة الحمراء في آخر مجاله..

 

طرأ صوت على مجال التسجيل طغى على صوت تنفس مَانِكي: كان الباب يفتح.. دخل آدم وانغلق الباب من ورائه.. رجع صوت نفس مَانِكي إلى وتيرة أعلى، صوت تنفس آدم أسرع منه، مما زاد من ارتفاع مؤشر الصوت عدة درجات.. كان خُنَاثَة جالسا وراء مَانِكي يشاهد بتمعن وإنصات.. انفرجت شفتا آدم وخرج من فمه كلام ضخمته مكبرات الصوت: "أنت كشجرة جوز على الشاطئ عرت جذورها الأمواج واستجابت لنداء البحر، مرتسمة في السماء، فصارت أجمل باقة ورد!".. من جديد صارت الأنفاس تتخلل مكبرات الصوت.. توجه آدم إلى المكان الذي كانت مَانِكي جالسة فيه ليجلس إلى جنبها.. كل منهما لا يرفع نظره عن الآخر.. ثم بدأ كل منهما ينظر إلى الآخر ويرفع النظر، بدا كل منهما يتحاشى نظر الآخر؛ مَانِكي تحول نظرها عنه ولا تعيده إلا في خجل.. بدءا يتلامسان، كل يضع يده على موضع من جسد الآخر، ثم ينزعها بسرعة، كما لو كان يخشى أن يتفسخ جلد الآخر ويلتصق بيده.. بعد لحظات زال التوجس وأمنا الالتصاق.. لم تعد الأيدي تكفي وحدها، كان كل جسم يتشبث بالآخر... تسارعت الأنفاس مع تلاصق الجسمين اللذين تشابكا لينصهرا معا! الآن تحولت الأنفاس إلى حشرجات وصرخات ذعر، حشرجات وصرخات يمكن أن تعبر عن لذة أو عن ألم كائنين يجهدان من أجل أن يتحدا ليشفيا الطبيعة البشرية.. كانت مَانِكي مندهشة أمام هذا الصراخ العجيب الذي كانت تسمعه لأول مرة.. لم تتعرف على صوتها ولا على صوت آدم.. لكن الذي ذعرها حقا هو تغير وجهها هي كما ظهر على الشاشة.. مع هذا الصراخ، كان يخرج من صدرها صدى موغل في القدم، كالموت؛ رغم أن وجهها على الشاشة يعبر عن سكوت عميق وإرادة حازمة في إنجاز سنة الحياة... ضغط خُنَاثَة على زر التوقف في جهاز الفيديو وأعلن:

- إنكما مؤهلان للخدمة المختلطة! لكنكما ارتكبتما خطأ جسيما: إن جماعكما وجها لوجه يمكن أن يوقعكما في الحب! من يرتكب جريمة الحب ويعشق عنصرا من الجنس لآخر يسبب خطرا على توازن مجتمعنا! من ثبتت عليه هذه الجريمة يرسل إلى أحد مراكز إعادة التأهيل، ولن يخرج منه إلا بعد الشفاء من مرضه!

قالت مَانِكي متوجسة:

- إلهتي أتوسل إليك أن تقيني من مرض الحب!

- إذا لم تفصلا بين العواطف والجنس فإنكما ستهلكان لا محالة!  نحن نعيش معا في الخدمة المختلطة ونعمل معا ونمارس الجنس، لكننا لا نقبل العواطف.. غدا ستنقلان إلى مركز الخدمة..

خرج آدم ومَانِكي من بابين مختلفين، دون أن ينظر أي منهما إلى الآخر.